recent
أخبار ساخنة

الافلات من عبء اللحظات القاتمة - قصة قصيرة - صبحة بغورة

الافلات من عبء اللحظات القاتمة - قصة قصيرة - صبحة بغورة

الافلات من عبء اللحظات القاتمة - قصة قصيرة - صبحة بغورة


صبحـه بغوره

                الإفلات من عبء اللحظــــات القاتمــــــة

  كبرت "ميساء " في أجواء عائلية هادئة ومستقرة بين أخوتها الذكور ظلت منذ ولادتها زهرة العائلة وعطر حياتها، نفسها الطافحة بالحياة والخافقة بنبضها جعلتها تتمتع بقدرة كبيرة على إنتاج السعادة لأسرتها بدل البحث عنها ، ما من أحد التقاها حتى لامست بصدقها وشفافية روحها وبسلاسة حديثها وعذوبة كلماتها أعماق وجدانه بنجاح وأثارت في نفسه البهجة والتفاؤل .

طرقت ميساء باب غرفة والدها تستأذنه كعادتها كل صباح في رؤيته قبل ذهابها للجامعة، طلب منها بكلمات متعثرة أن تمهله لحظة ثم أذن لها فوجدته يخفي بجانبه صندوقا معدنيا أصاب الصدأ أطرافه ، لم تعر الأمر اهتماما كبيرا وسرعان ما قبلت جبينه وانصرفت،تأملها هذه المرة بعين أخرى، رآها تسير أمامه بخطوات لم يكن يلاحظها من قبل ، كلها رشاقة.. وأنوثة ، تحسس موضع قبلتها وتهيأ له أنها غير بريئة كانت قبلة حارة تسلل معها إلى نفسه شعور مزعج ، أعاد فتح الصندوق وأخرج منه أوراقا مطوية قد اصفرت أطرافها ، كانت رسائل من أعز المقربين له لذلك احتفظ بها ، أراد إعادة ما كان يقرأ في رسالة تهنئة من أحد أصدقائه بمناسبة يوم ميلاد "ميساء" إذ استوقفه في نهايتها عبارة أحدثت في نفسه تحولا غريبا ، قرأها بصوت خافت وهو يحاول أن يستنبط المعنى الخفي من ورائها " ... وأن يلبسها لباس الستر والعفاف ويحفظها بما حفظ به الصالحات الطاهرات، وأن تكون ذخرا لمجتمعها ووطنها "  أثارت معانيها قلقا في نفسه تحول إلى هاجس مخيف ، تنهد عميقا ونظر إلى الأفق من خلال نافذة غرفته العريضة حيث السماء تكاد تنطبق على الأرض في احتواء جميل وتذكر كم كان زواجه من ابنة منطقته الريفية  انتقالا جذريا من جحيم المعاصي إلى نعيم التوبة ، كما تذكر كم كانت الحياة أسهل في اليوم الذي قرر أن ينتقل إلى المدينة بحثا عن العمل ، ولكن المدينة اليوم ليست كما كانت بالأمس  الجميع يعاني من صعوبة العيش في مدينة تتخبط  بين مقتضيات مسايرة التحولات الكبرى ومعاناة الاستسلام لفرائض التحولات المتطرفة ، لقد قضى سنوات عمره في كد وشقاء متقلبا بين مختلف الحرف والأعمال الشاقة واجه فيها ألوان من البشر تركت في نفسه تراكمات عميقة جعلته يعيش كابوس البقاء في دوامة من حوار الشكوى الهامسة إذ ظل أسير ترسبات حياتية خلقت لديه اعتقادات خاطئة راسخة أن جسد الأنثى وروحها هو ثنائية للشرف والخيانة وهاهي تعاوده في إصرار مرضي بعدما ظن أن الزمن قد يطهر الجراح ويلملم أشلاء القلب لترسي النفس على بر الراحة والهناء وأن زواجه هو الدواء الشافي للتخلص من لحظات الندم والتحسر واستبدالها بالأمل والثقة.

في المساء ، أرادت ميساء بعفويتها أن تحدثه كعادتها كيف قضت يومها وتقص تفاصيل ما واجهته من أحداث جادة ومواقف مضحكة ، ولكنه كان يبدو جامدا معها لا يبدي رأيا موافقا أو قولا معارضا، بدا كمن غاب عنه حسن الظن وغاب لديه طهر التواصل، استشعرت حرج الموقف بعدما رفض أن تلامس يديه ،صارحها بعد تردد أنه لا يريد أن يراها تخرج دوما من المنزل وتعود متأخرة في المساء ، يكفي ما بلغته من التعليم وأن... ولكنه صمت فجأة وهو يقرأ في الوجوه حوله معاني الأسف والاندهاش الأقرب إلى الاستنكار والرفض، انكمش على نفسه وأدار رأسه بعيدا عنهم ، وكعادتها في الحالات الحرجة لاذت بالصمت الجليل الذي منحها علوا وانتصارا، وبرغم ذلك أثارت كعادتها أيضا أجواء من الضحك والبهجة قبل أن يأوي كل فرد إلى فراشه. لم تغمض والدة ميساء عينيها طوال الليل فما واجهته ابنتها من إحراج أمام أبيها لم تكن غافلة عنه وخشيت أن يكون وراء ذلك سيطرة أفكار غير واقعية عليه سببها استدعاء أحداث من الماضي تعلم أنها كانت لحظات قاتمة عرفها في حياته جعلته يعاني قسوة الدونية المضمرة ، كانت تظن أنها نجحت في البداية لدفعه نحو سبيل التوبة والتكفير عن أخطائه عن طريق البوح الصريح والإقرار بالذنب، استجمعت همتها وشحذت إرادتها للنهوض بالمسؤولية القديمة المتجددة ، إنها الآن أكثر تصميما أن تواصل المضي في نفس طريق العلاج وكلها ثقة في النفس فهي لا تعاني من فقر الأفكار وبؤس الخيال وقلة الحيلة.

حول مائدة إفطار الصباح أبلغته أن أختها وزوجها وأولادهم سيتناولون معهم العشاء هذه الليلة ، ثم استدرجته في الحديث عن ما يمكن إعداده بهذه المناسبة ، علم أن لأختها بنتان وولد يزاولون الدراسة الجامعية بنجاح وأن زوجها المحامي المرموق كان ينتظر لقاءه به منذ وقت طويل، في الموعد كان اللقاء ، بدا الضيوف في أبهى حلة وأجمل زينة ، راقه تودد البنتين له واستعذب الحديث معهما ، وجد مظهرهما أكثر أنوثة من ابنته وألين قولا وألطف معاملة  ووجد أبيهما على قدر كبير من الأدب ومن الاحترام الجم ، تبادلا أطراف الحديث في عدة مواضيع ، تطرقا إلى مختلف شؤون الحياة وشاركهما فيه الأبناء كانت الأجواء مفعمة بالبهجة والسرور، وراقب خلال ذلك معاملة الرجل المهذبة مع بنتيه ولاحظ اهتمامه البالغ لسماع ما يقولانه من أراء وأفكار ، لم يلحظ عليه أي امتعاض على طريقة لباسهن العصري ولا أي حرج من ما يكشفه هذا اللباس من بعض الشيء منهن ، بدت ابنته " ميساء" وسطهن كأميرة ، أنثى تطوف بخفتها وتجول، بعد تناول العشاء مالت والدتها على أبيها هامسة أن الأفكار التي شيدت الماضي لو كانت صالحة في زماننا لاستمر الماضي واقعا ولم يتحول إلى تاريخ.. حينها وضع زوج أختها كاس الشاي جانبا وعلا صوت مبشرا بحصول جمعيته على الاعتماد الرسمي، ثم التفت إلى والد ميساء واقترح عليه المشاركة في عضوية جمعية التي ستنشط في أعمال الخير والبر للأطفال اليتامى والمحتاجين للرعاية الخاصة  ثم رشحه أن يتولى مهمة الشؤون الإدارية بالجمعية ، هلل الجميع للخبر وزاد استبشارهم عندما وافق والد ميساء على المقترح بل وأظهر تحمسا واضحا للفكرة.

لم يمض وقت طويل حتى وجد والد ميساء نفسه غارقا في العمل الخيري كل يوم ،تارة بمكتبه يستقبل عشرات المواطنين والمواطنات وتارة أخرى يقوم بمهام واتصالات خارجية  كانت زوجته تحرص على أن تسمع منه كل مساء جديد نشاطه وأخبار الجمعية وتحثه على تقديم المزيد من أعمال البر للمحتاجين وعدم البخل عليهم بالرأي وبالنصح والمشورة ، ولكن الحقيقة أن ما كان يشجعه أكثر هو سماع عبارات الشكر والامتنان من المحتاجين ودعواتهم له، ومنها قويت علاقاته بهم وتكررت لقاءاته معهم في المناسبات الطيبة وكان يحلو له أن يقص تفاصيلها على زوجته بكل اعتزاز وفرح ، حينها علمت زوجته الحكيمة أنه بدأ على طريق التواصل الاجتماعي وأعمال البر يحسن الظن بالناس ، لقد استعادت زوجها من أسر مهلك أراد أن يدخله طوعا، نجحت أن تخرجه من دائرة الشك والظنون إلى فضاء اليقين والحقيقة الواسع، أما ابنتها فهي تعلم أنها تستلهم قدرتها على العيش من قوة أحلامها ، وأنها ستلتقي يوما في مكان يجمع بين وهج الطبيعة وعبق التاريخ بمن تطوف بحسنها مملكة غرامه وتجول في ميادين حبه .

google-playkhamsatmostaqltradent