باريس |ألمى ابو سمرة - لم يكن الأمر بحاجةٍ إلى ساعةٍ من الوقت لملء الشارع الباريسي الذي يحتضن صالة New Morning مساء الاثنين 4 آذار (مارس) حتى نهايته، ولا إلى نصف ساعةٍ أخرى لتستوعب الصالة ذاتها هذا الجمع الغفير الذي أخذ مكانه متسمّراً أمام آلاتٍ إيقاعيةٍ ونفخيّةٍ ووتريّة وبيانو وكيبورد ينتظرون العازفين. مزيجٌ هجينٌ من اللهجات اجتمع تحت سقف واحد وإنارةٍ خافتة وموسيقى الجاز المسجّلة في الخلفيّة تحاول ضبط الإيقاعات المختلفة لهذه اللهجات. بعدما عجزت هذه عن مجانسةِ تمايلاتهم، إذا بأغنية «بعتّلك يا حبيب الروح» التي أخذت مكانها بين مقطوعات الجاز بكل انسيابية، توحّد إيقاع نبضهم وذبذبات حناجرهم على السّواء، ما عجزت عن فعله كل الروابط التي جمعتهم عبر التاريخ.
أخذ أعضاءُ الفرقة كلٌّ مكانه، تاركاً لزياد مكانه الطبيعي المنسجم مع خياراته وفكره بكل ما يحمله من جدليّة، يسار المنصّة، ويسارَ الجمعِ الهجين. «بونسوار» تعقبها «مسا الخير» بمنتهى الجدّيّة ودونما ابتسامةٍ من زياد كانت كفيلةً بإشعال الحضور. لم يكُن التصوير ممنوعاً في الأمسية، لحسن حظِّ الحضور أو سوئه، لا فرق، إذ ارتفعت على الفور الأيادي عالياً كلٌّ يحملُ هاتفه، الواقفونَ منهم والجالسون، وإن فاق عدد الواقفين منهم الجالسين بأشواط.
لم تكن هناكَ منشوراتٌ توزَّع جرياً على العادة في الأمسيات الموسيقية لتُعرِّفَ ببرنامجها، فاقتصرت كلمات «نجمِ اليسار» ــ في القسم الأوّل من الحفل على الأقل ـ على التعريفِ باسمِ كلِّ مقطوعةٍ عقب الانتهاءِ من عزفها مع الفرقة، فهذهِ موسيقى من مسرحية «أمرك سيدنا» لأنطوان كرباج من عام 1987، تلاها بعض الجاز، ثمّ «All my mind أو روح خَبِّر». وكما اسم المقطوعة، فقد ضمّت مزيجاً من الكلام بالعربيّة والإنكليزية. سبق أن أسمع زياد هذه المقطوعة لجو سامبل حين التقيا في بيروت عام 2010، فكيف لا يبدأُ بها والحفلُ كلّه، لا بل الجولة الأوروبية كلها، تحية لروح عازف الجاز هذا الذي كان له ولموسيقاه عميق الأثر في أعمال زياد؟
كانت هذه المقطوعةُ غناءً مجردَ مقدمةٍ لهبة إبراهيم التي استمرت مرافقةً الفرقة في «أسعد الله مساءكم». تقولُ في نهايتها «هذا كلُّ شيء بالنسبة لهذه اللّيلة، وتصبحون على خير»، لكنّ هذه الجملة لم تكن في مكانها مطلقاً، إذ كان هذا غيضٌ من فيض، وما زال في جعبة زياد الكثير الكثير لأمسياتٍ وأمسيات.
غلب على الأمسية التناوب شبه الدوري بين معزوفات من «ريبيرتوار» زياد، كمقدمة «لولا فسحة الأمل» (1994)، وأخرى لسامبل بنَفَسِ زياد كـ « The Song Lives On» والتي عَرّفت عنها مقدمة الحفل أنها ليست من معزوفات سامبل المعروفة، إلا أن الفرقة تستطيع أن تستمر بعزفها ساعة من الزمن، إلا أنها لن تفعل ذلك رأفةً بالحضور. باتَ معروفاً أنّ زياد وصل إلى مرحلةٍ من التسليم بأنّ السواد الأعظم من المستمعين ينحو باتجاه المقطوعات التي يتخللها كلام، ولم تكن معزوفة «ما تفل» (1983) استثناءً في هذا السياق، إذ عرّف عنها زياد بتهكمه المشبع بالجديّة، أو جدّيته المشبعة بالتهكم -لا فرق- قائلاً: «فيها جملة وحدة، حطيناها فيزا ليسمعوا موسيقى، ما كان في شينغن وقتها، فيزا».
بدأت أيادي الحاضرين المرتفعة تنوء بحمل كاميرات هواتفها عالياً فوق الرؤوس، وأخذت تنزل تباعاً، لكن أيادي العازفين كانت قد أنهت الإحماء للتو، فكان أن أتبعوا بـ «Jam 71 » المعروفة أيضاً باسم «مهووس»... «بالموسيقى طبعاً!» عقّب زياد. تلتها «أكياس وشنط»... «ما لقينالا ترجمة إلا Bags and Bags»... برغم الضحك الذي ولّده تعليق زياد هذا على اسم المقطوعة، إلا أنها اتسمت بطابع من الهدوء قياساً لسابقاتها، كيف لا وقد كانت آلة البزق حاضرةً بقوة بين الآلات النفخية والنحاسية، فتولت بذلك الإمضاء باسم الشجن الذي يترافق مع حزم الأمتعة والرحيل. ولن يكون خارجاً عن السياق أن تليها مباشرةً معزوفة Middle East أو «الشرق الأوسط»، مع حرص زياد على ربطها بخطوط طيران الشرق الأوسط، في دعابةٍ تحمل في ثناياها الكثير من المعاني: «Middle East Airlines هيك منشوفها نحنا لأنو».
أما معزوفة «وَصلو عبيتو» (1984)، فقد وجدت طريقها إلى برنامج الأمسية. «هيي طويلة شوي» قال زياد: «لأنو مش ذاكر بيتو، واللي عم يوصلو مش أحسن منو..»، وكان أن ارتسمت على وجهه ابتسامةٌ بسيطة لجزء من الثانية في الثواني الأخيرة للمعزوفة، لعلها أيقظت ذكرى محببة عن أشخاص وأوقات رحلوا من دون عودة، أو أنه الرضى عن الأداء وقد اقتربت الأمسية من نهايتها. عادت ذكرى جو سامبل لتحضر، وإن لم تغب، من خلال معزوفته Spiral. هتف الجمهور في نهايتها مطالباً بـ «بلا ولا شي»، فالنّديّة تاريخيّةٌ بين باريس وبرلين، ولن يقبلوا أن يؤثر زياد حضور برلين بغنائها حسب ما شاهدوه من فيديوهات. «جايي الحديث» جاء ردّه، فما زال على برنامجه معزوفته To Bach كتحيةٍ منه لهذه الأيقونة الموسيقية أيضاً.
غنى الحضور كما تمنى «بلا ولا شي» مع هبة إبراهيم، التي حاولت أن تسرق الأضواء بدلالها، بينما انزوى النجم منهمكاً في عمله يسار المنصّة، وأستطيع أن أجزم أن البعض لم يُشِح بناظريهِ عنه طيلة الأمسية رغم المشتتات. وحاول البعض الآخر بعناء التقاط صورةٍ واضحةٍ لنوتاته المكتوبةِ بخط يده.
ولعلّ ظهور سلمى مصفّي، أو Our Salma كما أحبّت مقدمة الحفل أن تطلق عليها، كان مفاجئاً للبعض ومتوقعاً من قبل البعض الآخر، فاستعادت بذلك، وبعد ما يقارب 20 عاماً، ثلاثاً من أغنياتها في ألبوم «مونودوز»: «مش بس تلفنلي»، Un verre chez-nous و«دعوى ضد مجهول». وكما الجدل الذي أثاره الألبوم حين صدوره، قد تتضارب الآراء حول ما إذا كانت سلمى موفقةً في إطلالتها أو لا، لكن لا يهم طالما أن الأمسية استرجاعٌ لماضٍ مضى، وجمعٌ للمتباعدات.
ولعلّه يصحّ الآن، وليس آنفاً، ترداد العبارة الشهيرة في نهاية أغنية «أسعد الله مساءكم» :«هذا كلُّ شيء بالنسبة لهذه الليلة، وتصبحون على خير»، فقد أسعد الله مساءنا بالفعل بهذا النجم الذي ما خبا وإن اختبا.