مدينة الأحلام
بقلم د/ ميسون حنا
تكلم ايها القلم، قل شيئا، أنا اكتبك، بل
اسيل حبرا على اديم صفحتك البيضاء، هي بيضاء لا تزال، ولكنك ستخط عليها
تاريخا اسود، أو برتقاليا سيان ، فالبرتقالة المخضبة التي تسمى دم الزغلول هي
البرتقالة التي اعنيها ، والدم الذي يسكنها
ليس دم الزغلول كما يعتقد ، بل هو دم ابناء مدينتي المشردين .تحدث ايها القلم ، تحدث
عني ، كن نائبي بالتعبير عن نفسي وعن ناسي ، تجدث عن مدينتي ، مدينة الأحلام ، منذ
غادرتها قسرا اصبحت مدينة الأحلام، نعم فقد كانت مدينة الواقع عندما كنت أسكنها،
أما عندما سكنتني في المنفى أصبحت حلمي وواقعي المدفون في حجرات قلبي الكليم ،
ولكنه الحلم الذي يخفف حدة الألم . هل خف
ألمنا أم أصبحنا مدمنين ؟ لاتسيء فهمي أيها القلم ، أنا لا أعني الإدمان بدلالته
الشائعة ، بل هو إدمان من نوع خاص، إدمان تحمل ألم فراق مدينتي الحلم ..... والحلم
كما تعلم وقود الخيال ، والخيال يجمِل عالمنا ، ويذكي فؤادنا فتعزف القلوب أنغامها
متماهية معه ، .... بل مع الألم ، فيرقلنا الخيال ، ويحملنا إلى دهاليزه الواسعة ،
ونلوذ به محتمين من القسوة حولنا إلى عالم متخيل يبعدنا عن واقع نبغضه ، مع أننا
أقحمنا عليه وعشناه رغم أنوفنا بتفاصيله الموغلة في الإجرام ، لذا ترانا نختبيء في
زاوية لائذة لنبتعد قدر المستطاع عن قسوة الحقيقة التي نبغضها . نبغض ذكرى مرت بنا
في غابر الزمان قبل مئات من السنوات ، وهي في الحقيقة ليست بعيدة كل هذا البعد ،
بل هي قريبة منا قرب العين من المحجر. نعم فإن مددنا أبصارنا تكون النتيجة أننا
نحتوي المدى أمامنا ..... هذه العين الصغيرة تتسع لمدى واسع تتحدى سعته المجرة
بأسرها ، ومع ذلك يعجز بصرنا أن يرى تفاصيل ما يدور حولنا ، بل هو يراها ، لكن
عقله الباطن يرفضها ، وينكرها
، وأمام هذا الرفض نصاب بالشلل .
مرت الذكرى قبل مئات السنين ، ذكرى ابتعادنا
عن مدينة الحلم . كيف ستصف أيها القلم طريق الآلام التي تألم على جنباتها المسيح ؟
ماذا ستقول عن مدينتي الخضراء ملاذ النبيين
والقديسين والرسل ؟ تلك مدينة الواقع ، المدينة الملطخة بدنس أوغاد استباحوها
لا أريد أن أحدثك عن هذا الإجتياح ، فأنت ملم
به ، والحديث عنه قد يخفف وطأته ، قد يخفف قسوة واقعه العريق بالإجرام والغولنة
تخونني الكلمات ، فيعجز لساني عن النطق ، قبت
لك أننا نعيش حالة من الشلل ، والخرس أيضا / فمهما كانت كلماتك مستشرة
أيها القلم ، أنا على يقين أنك لن تعطي وصفا
حقيقيا للبشاعة التي .... لا علينا ....إعترف أيها القلم ، إعترف أن عليك أن تبتكر
لغة
جديدة ، وتلبسها ألف دثار من لاهب العبارات
،ومع ذلك لن توفق ، ستبقى مقصرا ، عاجزا ، مرتبكا ، ولك عذرك لأن الله جل جلاله
لم يخلق لغة ملائمة لذلك ، الله قدير من غير
شك ، ولكنه ربما رأفة بحالنا لم يفعل ذلك ، لئلاتصبح لغتنا سامة فنفتك ببعضنا
وننسى
الغرض الذي من أجله أردنا أن نشحذ ألسنتنا
وأقلامنا ... قد يكون هذا تبرير لك أيها القلم ، تبرير لفشلك بفهم لغة الإله
القادرة على
كل وصف متخيل ، فما بالك برسم واقع حقيقي ،
ولكنه خيالنا المقصر ، خيالنا الذي يفشل في استيعاب الواقع . الخيال كما يقال
ويعتقد
أوسع وأكبر من الحقيقة ، ولكنه يصاب بالتقزم
أمام طقوس انتهاكات لا إنسانية تمارس على أرض مدينتي الحلم ، أول مرة أدرك أن
الحقيقة أوسع من الخيال ، بل إن الخيال عاجز
أمامها تماما .
نحن في المنفى نشعر بالتبلد حيث أننا ننظر
إلى مدينتنا التي تسكننا ونسترخي ، نتخدر ، ونتأمل جمالها الوحشي والملائكي في
آن ، نتأمله بعيون قلوبنا ونبكي ، نبكي
ذكرياتنا ، ويأخذنا الحنين إلى جرعة ماء من نبعها ...نحنّ إلى دفئها وشمسها ،
الشمس
لا تغيب عنها ، فالشمس كما تعلم صديقة البشر
، عقدت صداقتها معنا منذ الأزل ، فهي النجم المنير الذي يغدق بنوره علينا ، ويضيء
قلوبنا لنرى الحقيقة ، ولكنها شحنة زائدة من
النور انقلبت نارا تحرقنا ، هذه النار تأكلنا هناك عندما نسكن مدينتنا ، وتنقلب
إلى نور عندما
تسكننا هي في المنفى .... لا تسيء فهمي أيها
القلم ، أنا لا أعني أنني أفضل المنفى لا ، بل أنا على يقين أن لكل بداية نهاية ،
ونهاية المنفى
العودة ، وعندما نعود لأ الذكريات ، ذكريات
الطفولة قبل الإجتياح ، بل سينتهي الإجتياح ، وسننتصر على الظلم .... لا تهزأ
أيها القلم . دعني أحلم ، دعني أبني عالما من
الأوهام ، فالحلم يولد الأمل ، والأمل يصنع المعجزات . نعم هي معجزة ستتحقق
وسنرى أنفسنا عائدين إلى الديار ، وما بين
نفي وعودة يمر القطار ، طريقه ممدود ممدود ، ومحفوف بالمصاعب والأخطار ، وفي
غفلة منا يمر الفتى ويقتحم الأسوار ، يدلف
إلى الداخل ، يدخل المدينة تائها أو زائرا ، يقصد أبوابها ، ويمر على عتباتها ،
يسأل
عن الناس في الجوار .... أين الناس ؟ هجروها
أو هجِّروا عنها فلم يبق منهم إلاّ قلة قليلة مبعثرة بين جنباتها ، وفي أزقتها
التي كانت
تحتشد بهم عندما كان الأمان يخيم فوقهم
وعليهم ، عندما كان القمر بدرا ، والشمس ساطعة ، وفي عصر الدمار الذي المّ بهم ،
فتك بالأرواح من الشجر والبشر دون الحجر ،
تاركا آثاره في ضمير الأمة المحتضر ، تلفت الفتى يبحث عن الباعة والصور ، فالبضاعة
ليست بضاعتنا ، والصور غريبة عنا ، شعر الفتى بالغربة ، غريب في دياره ، تائه ولم
يخطيء العنوان ، ولكنه تاه في الزمان دون
المكان ، وغصة تقف في حنجرته تمنعه من البكاء
والصراخ ، كتم غيظه ، ومشى يبحث لعله يجد ضالته ، وادرك أنه غريق
يتعلق بقشة ضائعة ، ولكنها موجودة في مكان ما
، أحب أن يعتقد أنها موجودة في سرداب أو دهليز في مدينته المهجورة ، ولكي
يجدها عليه أن يقطع البحار ويجوب الأمصار ،
ويهتف ويصرخ ، ويدرك أنه لا يملك غير صوته دون سوطه ، فهو أعزل
مبتور الساعدين ،أخذ يتغنى بجناحيه المقصوصين
، سيجمع الريش لهما ، ويرممهما ، ومتى يستطيع أن يستعيدهما متينين سيعود ،
سيحلق من جديد فوق أزقة المدينة وسورها
العتيد ، متى هو لا يعلم ، ولكن سيكون يوم تتحدث فيه الجدات عن زمان غابر اجتاح
مدينة في الجوار ، وهجّر سكانها ، لكنهم
عادوا وعمروها ، وتمر ذكرى الإجتياح عابرة كالخيال ، لن نكترث لها ، سننشغل
بواقعنا الجميل ، متى سيحدث هذا متى ....ويغمض
الفتى عينيه ، العتمة تدهمنا اليوم وغدا يأتي نها......ر ....نها....