بقلم:
د. عبد الجليل بن محمد الأزدي كلية الآداب والعلوم الإنسانية/
جماعة القاضي عياض/ مراكش.
"إنَّ الحرية
والعذوبة ستسود في النهاية منتصرة على المادة والظلم والفساد المستشري".
ينتمي
عبد الإله بنهدار إلى عينة خاصة من الكتاب ممن يمكن تسميتهم كتاب
الصمت في استعارة للعبارة ذائعة الصيت: "شعراء
الصمت" التي سبق للشاعر الشيلي بابلو نيرودا أن أطلقها في مذكراته مترامية
الأطراف: أشهد أني عشت على نوعية من الشعراء ممن تدل عليهم كتاباتهم ومنجزاتهم
الأدبية أكثر مما يدل عليهم حضورهم الإعلامي وتكريسهم أدباء من قبل المؤسسات
السياسية والثقافية والإيديولوجية على السواء. ويكفي للتدليل على هذا المعنى
وصدقيته إلقاء نظرة على الرأسمال الرمزي الثري الذي واظب بنهدار على مراكمته في
صمت؛ وهذه بعض لوامعه: في المجال المسرحي: صرخة من سراييفو( 1996)، قاضي حاجة
(2008)، ومن بعد (2008)، صياد النعام (2008)، قايد القياد: الباشا الكلاوي(2010)،
الروكي بوحمارة(2012)، الجدبة (2013)، عيوط الشاوية(2013). في مجال الأشرطة
التلفزية والسينمائية: آسفة أبي(2006)، شهادة ميلاد(2008)، أولاد البلاد(2010)،
الزمان العاكر(2011)، ثم المساهمة في كتابة حلقات: قلوب تائهة (2017) دموع
الرجال(مسلسل/ قناة 2M)، كريمة( مسلسل/ أبو ظبي)، ناس الحومة(مسلسل/
قناة 2M)،
برنامج مداولة... علاوة على كتابات نقدية في المسرح والسينما
والتلفاز والأدب.
في هذا المضمار نفسِه، تأتي مسرحية البعد
الخامس لتشكل حلقة إضافية ضمن سلسلة الإضافات الرمزية والجمالية التي يَعِدُ بها
عبد الإله بنهدار، وليس مصادفة ربما أن تأتي المفردة الأولى في عنوان المسرحية
متجانسة ومفردتي البَعْد والبَعَد؛ فإذا كان البُعدُ من أبعاد الشيء يُقاسُ بها
وهي ثلاثة: الطول والعرض والعمق، علاوة على البُعْد الرابع: الزمن، فإنه يحيل كذلك
على معنى الابتعاد والنأي؛ وفي هذا المعنى الأخير، تقع الكتابة لدى عبد الإله
بنهدار بصفتها كتابة تبتعد وتنأى بنفسها عن مواضعات الكتابة المألوفة والذائقة
المتوارثة سواءٌ تعلق الأمر بالكتابة أم بالقراءة والتلقي. وتتشكل مسرحية البعد الخامس في
صيغة قراءة من نوع خاص لرواية متميزة هي بالتعيين رواية: الأديبة العربية الأردنيّة
ذات الأصول الفلسطينية سناء الشعلان: "أعشقني"؛
إذ تتجلى مظاهر الابتعاد عن المألوف في مَلْمَحَيْنِ
أساسين: أولهما؛ اختيار الكاتب لمسرحة رواية عربية؛ إذ اعتاد
القارئ على تحويل الروايات والمسرحيات إلى السينما كما الحال مع مسرحيات شكسبير
وروايات نجيب محفوظ وإحسان عبد القدوس وغارثيا ماركيز وخوسيه ساراماغو وإرنست
همنجواي ومارسيل بروست وغيرهم، وتحويل القصص والأساطير إلى الموسيقى: بحيرة البجع
كمثال في سمفونية تشايكوفسكي؛ فتحويل الروايات إلى المسرح لم يصر بعد مألوفاً لدى
القارئ والمشاهد على السواء، وإن أخذت في البروز على
امتداد الأعوام الأخيرة هذه العملية التي ترتكز على انتشار الرواية الكمي والنوعي
والاستفادة من نصوص سردية تسعف في إغناء المتخيل المسرح؛ وقد
عرفت مجموعة من الروايات العربية طريق تحويلها إلى المسرح المكتوب والمعروض، وفي
المغرب نجد عبد الإله بنهدار واحداً من الذين اختاروا السير في
هذا المنحى منذ اشتغاله على نصين روائيين للروائي محمد برادة: لعبة النسيان وامرأة
النسيان الذين قدمتهما فرقة المسرح المفتوح بعنوان: نسيان من إخراج مسعود بوحسين،
مرورا بمسرحية عيوط الشاوية المأخوذة عن رواية الميلودي شغموم: شجرة الخلاطة، حتى
هذا النص الجديد: البعد الخامس. وثانيهما: موضوع الاقتباس: رواية "أعشقني"
التي تتميز بفرادتها على مستوى النسق الجمالي والبنية الموضوعاتية؛ فهذه الرواية
يمكن تصنيفها وفق منطق نظرية الأجناس الأدبية ضمن روايات الخيال العلمي التي عاشت
غالباً على هامش النقد واللغات الواصفة؛ فكأن عبد الإله بنهدار وهو يُمَسْرِحُ هذه
الرواية يبتعد عن المألوف راميا بسهم إعادة الاعتبار لهذا الجنس الأدبي الغني
بمتخيله وأساليبه وأنساقه الجمالية وبنياته الموضوعاتية. ومن مظاهر النأي والابتعاد في هذا
العمل محتوى الرواية نفسها؛ إذ تدور أحداثها على مستوى الزمن في الألفية الرابعة
عام 3010 بالتحديد، ومكانها مجرة درب
التبانة، ومدارها: حكاية امرأة شمس: الكاتبة والمناضلة والمعارضة للسلطة التي
تُقتل تحت التعذيب، وباسل المهري الجلاد الذي يتعرض لحادث تفجير فيبقى دماغه سليما
بينما يُتلَف جسدها، وبأمر من السلطات وبرغبة من باسل المهري في التشبث بالحياة،
يقبل مضطرا الخضوع لعملية جراحية يُنقَل على إثرها دماغه إلى جسد المرأة التي قضت
في المسرحية تحت تعذيب الجلاد، وبينهما شخصية خالد عاشق شمس ووالد الجنين الذي
ينمو في جسدها الذي صار جسد باسل. ومن اللافت أن هذه الرواية تتقاطع
وتلتقي مع بعض أفلام سينما الخيال العلمي ومنها: فيلم الشرطي الآلي
Robocop على
سبيل التمثيل؛ ولا يفوت قارئ المسرحية الانتباه إلى شخصية الرجل الآلي؛
مثلما تتناص المسرحية ورواية الخيال العلمي: الجسد المضيف للروائية الأمريكية
ستيفاني مايرStephenie
Meyer ، وفيها " تهيمن أرواح غريبة على البشر وتسكن أجسادهم،
وتتصارع الأرواح وعقول الأجساد التي ترفضها"؛ وتجدر الإشارة إلى عتبة الإهداء
في رواية ستيفاني ماير وهو إهداء المخاطَبَةُ فيه هي الأم: "إلى أمي كاندي
لأنها علمتني أن الحب هو الجزء الأفضل في كل قصة" وفق تعبيرها الخاص؛ مما
يتناص مع إهداء سناء الشعلان الذي اختارت فيه إهداء الرواية إلى والدتها مع تواتر
مفردة الحب تيمة Thème الرواية ومدارها في آن:
» إلى
نبية البعد الخامس في عالمي، على صاحبة أكبر قلب وأجمل حب. إلى أمي ومن غيرها
يحترف العطاء والحب، ويحمل راية الحب الخالد؟"
لكن
هذا الابتعاد الجمالي عن الكتابة المألوفة في رواية "أعشقني" وصورتها
المسرحية البعد الخامس ما انفك يتراوح بين نسقين يهيمنان على الكتابة في النموذجين
معا وهما: نسقا الابتعاد والانجذاب؛ إذ ظل مضمونهما منجذبا إلى رؤية رومانسية
ومثالية تستنجد بالحب، مع تفرعاته كالتسامح مثلا، باعتباره حلا من الحلول المطروحة
للإجابة عن إشكالية العلاقة مع السلطة والطغيان، وكذلك قدرته على الحد من كوارث
الدنيا وجائحاتها؛ فوفق هذه الرؤية، يصير الحب في بعده الأول المحدود ومعناه
الابتدائي عاملا رئيسا في التخلص من مشاكل الإنسان على وجه الأرض والمجرة معا.
تقول شمس في المسرحية: "بدون عشق سنحكم على عالمنا بالفناء،
وبدون عشق سيكون هذا العالم دمارا علينا، حينما تكثر وتعظم الكوارث معناه قلَّ
وتضاءل الحب والعشق" (المشهد1). ومما لا شك فيه أن هذه الرؤية تنسجم ورؤية
السلطة الحاكمة والمسيطرة عبر أجهزتها الإيديولوجية ومؤسساتها القمعية إذا جازت
استعارة توصيف لوي ألثوسير لهذه المؤسسات؛ ومن علامات ذلك وصف عمليات التفجير التي
طالت الجلاد في الرواية من قِبَلِ الموالين للمناضلة اليسارية والثورية بالحادث
الانتحاري( الرواية)؛ وفي هذا التوصيف إحالة إلى تلك الهجمات الموصوفة من وجهة نظر
السلطة الحاكمة بالحوادث الإرهابية. وإذا كان من الطبيعي ومن نافل الكلام أن لا
تنحاز الرواية والمسرحية إلى إيديولوجية بعينها وان لا يتحولا إلى وثيقة تحريضية،
فمن المؤكد تماماً أن لا يصيرا إلى دعاية لموقف السلطة وكتابة تتبنى وجهة نظر
الطبقات الحاكمة وإيديولوجيتها الخاصة. ولا تنأى هذه الدلالات بعيدا عن
أسماء الشخصيات وتمظهراتها، ولنأخذ اسمي العلم "شمس" و"خالد"
كمثال؛ إذ لا تخفى دلالة "شمس" المحيلة على النور والضياء، وخالد العاشق
الموسوم بالخلود؛ فالحب خالد وخالدٌ هو الحب، و» عندما يحضر خالد تغيب الأشياء
كلُّها، فهو إله الحضور الجميل« (الرواية،ص9)؛ وتلك لا مراء نظرة صوفية للعالم
وللوجود تمتح من رؤية الساردة في الرواية؛ فهي تعلم "علم اليقين والمؤمنين
والعالمين والعارفين والدّارين وورثة المتصوفة والعشاق المنقرضين منذ آلاف السنين
أن الحب هو البعد الخامس الأهم في تشكيل معالم وجودنا" (الرواية، ص13)
. ومن الموائم الانتباه كذلك إلى أن
هذه الرؤية الإيديولوجية المرتبطة في جوهرها بإيديولوجية السلطة لا تنفك تتقاطع مع
واحد من تجلياتها السلطوية، أقصد النظرة الذكورية؛ فالرجل
حقيقة وليس خيالا كما جاء على لسان المؤلفة سناء الشعلان في إحدى عتبات الرواية
(ص6)، وحضوره أزلي، وهو المطلق( المشهد21)، تخاطبه شمس بعبارة: مولاي
(الروايةص16)، وهو غايةُ وجودِها؛ ألم تفصح عن ذلك في اختيارها لمفردة شمس في هذه
العبارة الدالة: » دمتُ لك شمسا تضيء لك عتمة الليالي الحالكات«. (ص6). وتتجلى هذه
الإيديولوجية من خلال الاختيار القاضي بالإبقاء على الدماغ لشخصية باسل والجسد
لشخصية شمس في دلالة واضحة على أن العقل للرجل والجسد للمرأة بما يحمله العقل من
سمو وتعالٍ في تضاد مع الجسد: الزائل والعابر والمدنّس. وإجمالا، تجدر الإشارة إلى أن لغة
المسرحية تتميز باعتمادها جملا مقتضبة وبياضات تنحو في مجملها إلى أن تكون في
متناول الذائقة ومتوائمة مع ذوق العصر؛ لغة أنيقة ومألوفة تضع في الاعتبار عنصرين
من عناصر النص المسرحي: • قارئ النص
المكتوب، متسرعاً كان أم متمعنا، محترفا أو هاويا؛ وذلك من حيث تموضعها بين اللغة
العادية واللغة العالية؛ • مُشاهد النص
البصري؛ إذ تضمر لغة المسرحية في تركيبها المعجمي خاصة قابلية النص المسرحي للعرض
حتى مع تلك الإيحاءات الجنسية( المشهد22) التي بالإمكان تشخيصها ضمن رؤية
سينوغرافية خاصة.
وختاما،
يُشَكِّلُ هذا النص المسرحي إضافةً نوعيةً لمجمل الرأسمال الرمزي الذي راكمه عبد
الإله بنهدار في دروب الكتابة، مثلما شكلت رواية
"أعشقني" لبنة في الصرح الروائي الذي دأبت الأردنية ذات الأصول الفلسطينية
سناء الشعلان على تأثيته بجملة كتابات شفيفة وأنيقة جماليا؛ وبهذا الاعتبار،
فالإضافة المنوه بها هنا تُغْنِـي حقل الرواية العربية ومجال الكتابة المسرحية في
آن واحد.