فوجئ اللبنانيون بتصريح مفتي الجمهورية الشيخ عبد الخفيظ دريان القائل بأن الرئيس فؤاد السنيورة خط أحمر. وإن غدا تصريحه بمثابة قنبلة صوتية لا تقدم ولا تؤخر في سياق التصميم على مكافحة الفاسدين، الذين أظهروا لبنان في قمة العجز، وأحكموا قبضتهم على مفاصل الدولة وتفاصيلها بحيث أفعالهم بدت شبكة أمان وأنظومة وجود بهيكليات صلبة على حساب الحق والقانون، إلا أن تصريحا كهذا كشف بلا مواربة فظاظة الخطاب الديني-الطائفي المبتدع من مراجع دينية يفترض بها أن تظهر ذاتها على غاية فائقة من الطهارة والرفعة والسمو. وبالتالي فإنه مساحة تحفيز لرجال دين آخرين لكي يهبوا ويعتبروا الفاسد -إذا ثبت فساده- فوق القانون وفوق المحاكمة. فتبدو الطوائف أقوى من القانون والدولة.
لقد أخطأ سماحته خطأ فادحا بهذا الظهور الخاوي من الحق. ذلك أن أحدا قد افترى على الرئيس السنيورة. ويحق لأي كان السؤال عن المبالغ والهدر في حقبة كانت غنية بالاصطفافات الدولية والعربية والإقليمية المتحكمة بالمسار السياسي والاقتصادي للبلد والقابضة على زمام أموره بتفاصيله. في مقال سابق أبنا وأظهرنا خيانة اللغة لفؤاد السنيورة وهو يرافع عن نفسه بسبب ارتباكه أمام تاريخ ليس فيه شيء من بهاء الفعل والعمل. فالنائب حسن فضل الله في المساءلات التي طرحها أمام النيابة العامة لم يستهلك حضورا مذهبيا بما يعنيه من خصوصية ودور، ولم يسم أحدا، والبارحة بالذات حذا حذوه وزير الخارجية ورئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل مؤكدا على المضي في الحرب على الفاسدين وفسادهم وإفسادهم بقانون وقع عليه عشرة نواب من تكتل لبنان القوي يرفع السرية المصرفية عن الرؤساء والوزراء والنواب والمدراء العامين، وهذا القانون إن سن وطبق بلا مواربة فهو الكفيل بردع الفاسدين وكبح جماحهم وضرب منظومتهم وتقطيع أوصال فسادهم في معظم المؤسسات فتولد من هذا الرحم دولة نقية وبريئة من العيب.
خطيئة المفتي دريان أنه لم يلحظ أن تصميم العهد برئاسة العماد ميشال عون لن يمسه فساد الطائفيين بخطاباتهم البالية. ليس من حصانة للفاسدين ولا أحد يعلو على سلطة الدولة. مكافحة الفاسدين وردع الفساد بالقوانين فرض أخلاقي مقدس وهي حرب لا هوادة فيها. هكذا أظهر فخامته متانة التصميم وفعل التعميم بلا محميات من هنا وحمايات من هناك. وبرأي كثيرين فإن استباق المفتي دريان للتحقيق بالأرقام كشف احتمال أن يكون فؤاد السنيورة مذنبا. ولأنه مذنب فلا تجوز محاكمته لأن طائفته تحميه. فلو فرضنا أن ثمة شخصية مارونية أو أرثوذكسية فاسدة لا سمح الله فهل يلقى تغطية من بطريركه أو مطرانه فقط لأنه ماروني أو أرثوذكسي؟ المريب في اعتبار سماحته بأن الرئيس فؤاد السنيورة خط أحمر تشريع وتسويغ لخطاب مذهبي متلاطم ومتصادم فيما لم يسع أحد لهذا الخطاب.
أمام هذا المشهد يطرح سؤالان وجيهان من قبل المراقبين:
١-من سوغ لسماحة المفتي أن يهب هبة واحدة ويعلن إعلانا كهذا وإن ظهر أجوففي الشكل والمضمون؟
٢-لماذا استدخلت الإدارة الأميركية ذاتها وأقحمت نفسها في هذه اللحظة بالذات مع زيارة ديفيد ساترفيلد إلى لبنان وماذا جاء يقول؟
جوابا على السؤال الأول، تقول المعلومات بأن السعودية ضنينة بالسنيورة ولعلها وكما تقول مصادر متابعة ضنينة به أكثر من الرئيس سعد الحريري نفسه. فبالنسبة للسعودية فؤاد السنيورة يبقى لها المرشد (بهذا التوصيف الدقيق) القادر على كتابة رؤيته لها وتوجيه مسارها فيما خص عناوين عديدة ودقيقة وهي بقياداتها تأنس إليه وتستأنس بقراءاته السياسية والاقتصادية، وهي بالتالي تعتمد عليه في الشأن اللبناني في اللحظات الدقيقة فيترجم ويجسد رؤيتها خير ترجمة وتجسيد. لقد تحرك وليد البخاري بسرعة محاولا حمايته وتغطيته نزولا عند أوامر قيادته، ومسقطا تلك الحماية في الحرب السعودية على حزب الله، لكون النائب حسن فضل الله يمثل الحزب في هذه الرؤية فيما أن النائب فضل الله سلك سلوكا رقابيا وقانونيا ودستوريا من ضمن الاستراتيجية التي رسمها حزب الله وعلى رأسه أمينه العام السيد حسن نصرالله في الحرب على الفساد. والأمر الثاني اللافت في سلوك فضل الله أن النائب يمثل الأمة اللبنانية جمعاء كما هو وارد في الدستور.
هنا يبرز الجواب الثاني عن حضور ديفيد ساترفيلد إلى لبنان. الأميركيون عامدون على استهلاك لبنان كساحة ضغط بوجه إيران ومن ضمن حربها بالتآزر مع السعوديين على حزب الله كحزب إرهابي وليس كحزب جهادي بوجه إسرائيل. وقد لفت بعضهم استعمال صفة الجهاديين على الحركات التكفيرية والإخوانية في وسائل الإعلام الغربية وبخاصة الأميركية فيما تستعمل صفة إرهابي على حزب الله. يتعاطى الأميركيون مع الملف اللبناني بسياسة العصا والجزرة، يدغدغون مشاعر اللبنانيين بتعاطفهم مع الجيش ودعمهم له، في المقابل يحذرون من حكومة تضم حزب الله ويلوحون بالعقوبات. لكن ما ليس واضحا بعد في الأذهان ونقشعر له الأبدان بأن الأميركيين في مرحلة تكوين الطائف إلى هذه المرحلة كانوا رعاة للفاسدين والمفسدين ولكل فساد صادر عنهم، وقد أعانهم تتامي الدين العام في لبنان إلى ما فوق الثمانين مليار دولار ليكون رهينة البنك الدولي بشروطه السياسية والاقتصادية التي تجعله قابلا لكي ينفذ بصورة جذرية توطين اللاجئين الفلسطينيين والنازحين السوريين أي ليبقى لبنان وطن لجوء ونزوح. وما مؤتمر سيدر بشروطه المملاة إلا وسيلة لذلك.
وحين أتت قضية الرئيس السنيورة على هذه الحدة تحرك الأميركيون. ذلك أن فؤادا كان جزءا من تلك الحقبة الصاخبة، أي جزءا من الحماية الأميركية بحصانتها وإمساكها بلبنان من خلال تكوينها له في مرحلة الطائف وما بعده إلى جانب السوريين والسعوديين آنذاك، وقد كان ساترفيلد في مرحلة من هذه المراحل سفيرا لأميركا في لبنان. في تلك المرحلة كان لبنان ممسوكا أمنيا وقضائيا واقتصاديا وخلت بيروت من تراثها لمصلحة سوليدير. وفي مقابل ذلك كان لبنان المدى لشرق أوسط جديد لم يكتب له النجاح سواء بالتفاوض الذي حصل ولا بنظرية الفوضى الخلاقة التي خيمت عواصفها على المنطقة منذ ٢٠٠٣ تاريخ الدخول الأميركي إلى العراق مرورا بسنة ٢٠٠٥ سنة اغتيال الرئيس رفيق الحريري إلى سنة ٢٠٠٦ تاريخ الحرب الإسرائيلية على لينان وصولا إلى الحرب على سوريا وهي قمة الحروب برعاية أميركية خليجية إسرائيلية. وفي كل تلك المطبات كان فؤاد السنيورة شريكا فعالا للأميركيين بالتأسيس والتكوين ورسم خرائط الطريق، وفي سنة ٢٠٠٩ روي عن الإدارة الأميركية بأن السنيورة رجل ثقة عندها أكثر من سعد الحريري، وقد بدا للرئيس رفيق الحريري وكأنه مزروع في خاصرته.
ساترفيلد في لبنان ليقول للمسؤولين ما قاله المفتي دريان السنيورة خط أحمر. لكن بالنسبة للعهد مع الرئيس عون، لبنان يمتاز بعلاقة طيبة مع أميركا ولكن ليس على حساب خصوصيته وكرامته وفرادته، وليس على حساب جوهر وجوده ونقاوته. ولذا فإن الحرب على الفساد كالحرب على الإرهاب لا هوادة فيها ولا تراجع، هي حرب أخلاقية مقدسة، حتى تولد دولة الحق المحصنة لكرامة المواطن وحقه في العيش والوجود.
http://bit.ly/2ITwStT