
عظة القدَّاس في عيد مار مارون
يُسعِدُنا يا صاحبَ الفخامة، في صَبيحةِ هذا العيدِ المُباركِ، عيدِ أَبينا وَشَفيعِ كنيستِنَا مار مارون النَّاسِكِ، أن تَكُونُوا على رَأسِ المُصلِّينَ في هذا الهَيْكلِ المُقدَّسِ الَّذي رُفِعَ على اسْمِ صاحبِ العيدِ في قَلبِ عَاصِمتِنَا بَيروتَ. وَإنَّنا نَسألُ اللهَ في هذه المُناسبَةِ الرُّوحيَّةِ والوَطنيَّةِ الجامعةِ، أَن يَرْعَاكُم بِعَينِ عِنَايَتِهِ على الدَّوَامِ، وَيُسدِّدَ خُطاكُم إلى ما فِيهِ خَيرُ لُبنانَ وَإنقاذُهُ مِن الأَخْطارِ المُحْدِقةِ بهِ، وَقَد كَرَّستُم العمرَ لِخِدْمَتِهِ وَبَذَلتُم مِن أَجلِهِ كلَّ التَّضحِيَاتِ بِغيَةَ إِيصالِهِ إلى اسْتِقرارِهِ المَنْشُودِ، وَتَحقِيقِهِ الرِّسالة التَّاريخيَّةِ الَّتي مِن أَجلِهَا كانَ وَمِن أَجلِهَا سَيَبقَى.
وَإنَّنا نُرحِّبُ بِخَالصِ المَحبَّةِ وَالشُّكرِ بِدَولةِ رئيس مجلس النوَّاب الأستاذ نبيه برِّي، وبدولة رئيس مجلس الوزراء الشيخ سعد الحريري اللَّذَين يُضفِيَانِ بِحضُورِهِمَا المُحبِّ معنا فَرحًا خَاصًّا، لَنَا وَلِجَميعِ اللبنانيِّين. وَنَخصُّ بالشُّكرِ نيافة أبينا ورأس كنيستنا الكاردينال مار بشاره بطرس الرَّاعي بطريرك إنطاكية وسائر المشرق الكلِّيَّ الطُّوبَى لإيفادِهِ إِلَينَا سيادة أخينا المطران بولس عبد الساتر، النائب البطريركي السامي الاحترام وسعادةَ السفيرِ البابويِّ المطران جوزيف سبيتاري الَّذي يَحملُ إلينا بِمُشاركَتِهِ وَحُضُورِهِ بَركةَ الحبرِ الأعظم البابا فرنسيس وَعربُونَ مَحبَّتِهِ لِلُبنانَ. ونشكر لضيف لبنانَ الكبير نيافة الكاردينال أوديلو شيرر رئيس أساقفة سان باولو – البرازيل حضوره معنا صلاة العيد. كمَا نَشكرُ إخوانَََنَا أصحابَ السِّيَادةِ المطارنة، رؤساءَ الكنائس والأبرشيَّاتِ، وأصحابَ الفخامةِ والدَّولةِ والمعالِي والسَّعادة وسفراءَ الدُّوَلِ وَالهيئاتِ القنصليَّةَ والسُّلُطاتِ القضائيَّةَ وَالقياداتِ العسكريَّةَ وَالمراجِعَ المدنيَّةَ كافَّةً لِحُضُورِهِم مَعَنَا في هذا القدَّاسِ وَمُشاركتِهِم إيَّانَا بَهجَةَ العِيدِ.
وإنَّنا نَحمدُ اللهَ على أَنَّ تَبَاشيرَ هذه البَهجةِ قد اسْتَبَقَت العيدَ بأيَّامٍ، مُتلازِمةً مع إِطلالةِ الحكومةِ اللبنانيَّةِ الجديدةِ. فما إنْ أُعْلِنَتْ التَّشكيلةُ الوزاريَّةُ الرَّاهنةُ حتَّى أَدْخَلََت إلى قُلُوبِ المواطنين أَملاً مُتجدِّدًا بِانطلاقةِ لُبنانَ على طَريقِ اسْتعادةِ ذَاتِهِ وَتَثبيتِ دَورِهِ في إطارِ المنطقةِ بِأَسْرِهَا. وهم راحوا في هذا المجال يُردِّدُونَ كلمَاتِكُم يا فخامة الرئيس بأنَّ الحكومةَ الأولى للعهد بعد إجراءِ الانتخابات النيابيَّةِ ستكون المؤشِّرَ والمُنطَلَقَ إلى صعود لبنان نحو القمَّة الَّتي تطمحون إلى أن يصعد إليها. وقد لفتنا في الأمر جَمٌّ من المواقف المعبِّرة، وقد أتى بعضها من الدَّاخل اللبنانيِّ، والبعض من دُوَلِ المُحيطِ لا بَلْ من دُوَلِ العالَمِ المهتمَّةِ بشؤون لُبنانَ، شرقًا وغربًا. ففي الدَّاخل لاحظنا شبه إجماع على حسن استقبال هذه الحكومة لأنَّها جمعت في صفوفها معظم الكتل والآراء، وهي مدعوَّة بإذن الله للعمل صفًّا واحدًا على إعادة ثقة اللبنانيين بوطنهم. ومن المعروف أنَّ اللُّجوءَ إلى حكومات الوحدة الوطنيَّة يتمُّ عندما تكون بلادٌ ما في خطر وتصبح بحاجة إلى جمع قِوَاهَا الحيَّة من أجل الانتصار على عدوانٍ داهمٍ أو الخروج من مأزقٍ عصيبٍ يهدِّدها بالوهن والتَّلاشِي. أمَّا من الخارج فكان هذا السَّيْلُ من البرقيَّات المُؤيِّدَة للحكومة الجديدة الَّتي تلقَّاها المسؤولون من كلِّ حَدْبٍ وَصَوْبٍ. ومنها ما أرسلَتهُ دولٌ شقيقةٌ وصديقة، أو دولٌ متابعة للوضع في بلادنا. فدلّت بغزارتها على أن لُبنانَ يبقى فوقَ السِّياسةِ وطنًا يحمل رسالةً خاصَّةً أدخلها البابا القدِّيس الرَّاحل يوحنَّا بولس الثَّاني إلى التَّاريخ عندما أعلن أنَّ لُبنانَ هُو أكثرُ من وطنٍ، وأنَّ رِسالتَهُ هي العيشُ المشتركُ الحرُّ والسَّويُ بين أطيافه، بما يجب أن يهمَّ الشرقَ والغربَ على التَّساوي. وإنَّنا بروحِ هذه الرِّسالة نشكر الله الذي ألهم قداسة البابا فرنسيس الزيارة التي قام بها في هذا الأسبوع إلى دولة الإمارات العربية الشقيقة، حاملاً إليها سلام الأخوَّة الإنسانيَّة ورغبة في الحوار البنَّاء بين المسلمين والمسيحيين وداعيًا من كل قلبه إلى وقف الحرب في كلٍّ من العراق وليبيا واليمن وسوريا.
أمام هذا الاهتمامِ العالميِّ بِلُبنانَ، والمرتبط بتطلُّعٍ عميقٍ إلى مصير الحضارة الإنسانيَّة الشَّاملة، والتَّعايُش بين الشُّعُوبِ، وتحت أنظاركم يا فخامة الرئيس لكونكم تُجسِّدُونَ هذا الوطن الغالي بأسمى طموحاته، ومع وجود قيادات وطنيَّة أصيلة من حولكم تمثِّل شعبَ لُبنانَ، وتحمل معكم همَّ الوطن، يجدر بنا أن نتجنَّبَ ضياع الفرصة السانحة هذه أمامَ الوطنِ، ونهبُّ جميعًا لخدمته مُركِّزين على صون مستقبله، كيانيًّا ودستوريًّا وطريقة حكم، وواضعين نصب عيوننا النجاح، والنجاح وحده، لكي ننسى يومًا أنَّنا مررنا بمثل هذه المحنة أو نذكرها فلا تعاد.
إنَّ هذا الوطن الَّذي يكفر به بعضُ أبنائه لضائقةٍ يَمرُّ بها حاضرُهُ، يبقى بجوهره وكيانه «درَّةَ الشَّرقَيْن». فالجوهر والكيان هما من ثوابته الَّتي يحقُّ لها الخلود، ولو كانت الأعراض فيه قابلة للتَّأقلم مع المستجدَّات. إنَّه وطن الحرِّيَّة بامتياز، حرِّيَّة الدِّين، والرَّأي، والمَوقف والعمل والسِّياسة. ولقد نجح منذ مئات السنين في الجمع على أرضه بين طوائف متنوِّعةٍ دينًا وعقيدةً، وفي قبولها بعضها لبعض بالاحترام وعدم تدخل أيٍّ منها بإيمان الآخر، وفي سَعْيِهَا إلى الحياة معًا بما يحفظ لها جميعًا أَمنَهَا وسلامَهَا ويوفِّر لها العيشَ الأَخويَّ الكريم. فليس قليلاً أن يذكر الدستور اللبنانيُّ متفرِّدًا بين دساتير الشرق المحيط وُجُوبَ احترام حرِّيَّة الضَّمير وهي أكبرُ وأهمُّ من مجرَّدِ حرِّيَّة العبادة. لا بَلْ إنَّ هذا الوطنَ قد صنع اختبارًا لم يُعرَف له مثيل في العالم إلى الآن، وهو اختبار شراكةَِ الحياةِ والحُكمِ بين مسلمين ومسيحيِّين مع المساواة في الحقوق والواجبات كما في القيادة وحَمل المسؤوليَّات. فجاءت الحرية صانعةً للمواطنة المتساوية بين النَّاسِ، الَّذين تَحوَّلُوا بفعلها ويتحوَّلُّون من رعايا للسَّلاطين إلى شعبٍ يحكمُ نفسه بنفسه ضمنَ ديمقراطيَّةٍ واضحةِ المعالم. وهكذا تقدَّمَ لُبنانُ على درب الدَّولة المدنيَّة، مُميِّزًا بين الدِّين الَّذي هُو لله والوطنِ الَّذي هُو لِلجميعِ. ولم يَختَر دينًا واحدًا ليكون دينًا رسميًّا له دون سواه، بلْ قدَّم الإجلالَ لله واستلهم مجملَ عقائد شعبه ليؤمِّنَ احترامَ القِيَمِ الَّتي تُسيِّر الفرد والجماعة في سائر ظروف الحياة. إنَّ هذه الثَّوابتَ قد رَسَمَتْ صورةَ لُبنانَ لا بَلْ حَفَرَتْهَا في قلوب أبنائه وطبعتهم بطابعها المميَّز. فلا يُمكن لِلُبنانَ بعد ذلك أن يتخلَّى عن هذه الثَّوابتِ دون أن يُنكرَ نفسه لا بلْ علَّةَ وُجُودِهِ. هكذا صنعه اللهُ في التَّاريخ وهكذا يحمل الى المنطقة تجربةً خاصَّةً بقبول الآخر لا بدَّ من أن يسعى إليها العالَمُ الباحِثُ عن حلِّ مشاكل التَّعدُّديَّة المجتمعيَّة حلاًّ إنسانيًّا وحضاريًّا بامتياز.
خلاصُ لُبنانَ يمرُّ لا يكونُ إذن إلاَّ بالحفاظ على هوِّيَّته وعلى الثَّوابت الَّتي رَسَمَتْ عَبرَ التَّاريخ ملامحَ وجُودِهِ. لكنَّ الأمر لا يعني أنَّ لُبنانَ غيرُ قابلٍ لِلتَّطوُّر. فالتَّطوُّر هو سنَّةُ الحياة وهو يأتي بالتَّجديد من ضمن التَّقليد ليبقى الكيان هُو هُو، فردًا كانَ أو جماعةً. ولقد سبق ونظرنا في دستورنا الَّذي كان متقدِّمًا بالنسبة إلى دُوَل المُحيط، وبعضها يُفتِّشُ إلى اليوم عن دساتير لها جديدةٍ تكون أكثر ملاءمة للزَّمن الحاضر. وفي كلِّ حالٍ فالدُّستورُ يَرسمُ في نصِّه بالذات آليَّة تطوِيرِهِ ومن ضمن الحرص على صَوْنِ المبادئ الَّتي ارتضاها اللبنانيون. وقد أَدخَلُوا فيهِ قاعدةً جديدةً بصياغتها وقديمةً بمعناها، وهي القائلة بأنَّ «لا شرعيَّةَ لِمَا يُناقِضُ العيشَ المشتركَ في هذه البلاد». قد يكون الوقت الرَّاهن غيرَ مُؤاتٍ لطرح مثل هذه الأمور، إلى أن يسودَ البلاد جَوٌّ من الحياة الطبيعيَّة، فنكرِّس جهدنا قبل ذلك لإنقاذ الجسمِ الوطنيِّ من أزماته الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة الَّتي تشدُّ عليه الخناق. ومن ثمَّ نعود إلى التطوير الضَّروريِّ عندما تقوى صحَّةُ البلادِ، وتصبح قادرة على الاحتمال. فهل قصد المفكِّرُ الفرنسيُّ آلان مثلَ هذه الحال عندما كتب أنَّ «على المرءِ في بعضِ الأحيانِ أَن يُكمِلَ وبعد ذلكَ يَبدَأ»؟ فإلى انتظام الحياة العامَّة نحن أوَّلاً مَدعوُّونَ، ومُوَاجهةِ الاستحقاقاتِ الصعبة المعروفة، والقيامِ بالإصلاحاتِ المطلوبة كما في بيتٍ تَعرَّضَ لِلأعاصِيرِ، فَوَجَبَ تأهيلُهُ للسَّكنِ من جديدٍ.
ويبقى جهدٌ ثالثٌ نقوم به من أجل إنقاذِ لُبنانَ وتجنُّبِ العودة بأوضاعه إلى الوراء. إنَّه جهدُ اختيارِ مَن هم الأصلحُ لِتَولِّي المسؤوليَّاتِ، والسَّعيُ لِبَثِّ رُوحِ التَّضحية من أجل الشَّعبِ ولا سيَّما في طبقاته المعسورة. لقد أكَّدتُم يا فخامةَ الرئيس أنَّكُم لن تَتَهَاوَنُوا في هذا الموضوع. ونحن نسألُ اللهَ لكُم ولجميع المسؤولين معكم كلَّ التَّوفيق في هذا العمل الإنقاذيِّ الكبير. وإنَّنا نطلب شفاعة الأولياء من أجل هذا التَّوفيق، سَاعِينَ لأن نتَّخذَ من حياتهم قوَّةً ومثلاً لخدمتنا ولِلرِّسالةِ المَوكُولَةِ إلى كلٍّ منَّا. فالقدِّيسُ مارونُ كان راهبًا ناسِكًا نَذَرَ نَفسَهُ لعبادةِ الرَّبِّ منقطعًا عن مشاغل الدُّنيا، وذلك في سبيلِ الله وَحدِهِ. لكنَّه وفي قلب زُهدِهِ النُّسكيِّ بَقيَ عَطُوفًا على النَّاس وبخاصَّةٍ على فقراءِ الأرضِ وعلى المَرْضَى والمُصَابينَ بأشدِّ أنواع الآلام نفسًا وجسدًا. فَوَهَبَهُ ربُّهُ نعمةَ الشِّفاءِ ونعمةَ إرشادِ النُّفُوسِ إلى خلاصها. وقد كرَّمَهُ شعبُهُ الَّذي أحبَّه في الحياة وفي الممات إلى أن كبر وصار اليوم كنيسةً وارفة الظِّلال ينتشرُ أبناؤها في كلِّ الأرض. إنَّه قُدوَةٌ بين الأبرارِ والصَّالِحينَ الَّذين تعلَّمُوا من المسيح أن يكونوا مُتَوَاضِعِينَ ومُحبِّينَ للنَّاسِ، ومُخلِصِينَ لهم كلَّ الإخلاص. هو لم يكن على علم بالإدارة وتنظيم المجتمعات، لكنَّه تعلَّم من الإِنجِيلِ المقدَّس أنَّ يسوع جاءَ لِيَخدُمَ لا ليُخْدَمَ، وَأوصَى الكبيرَ بين النَّاس بأنَّ عليه أن يكونَ لهم خَادِمًا.
من هذا المبدأ الإنجيليِّ بالذَّات ينطلقُ الإصلاحُ الحقيقيُّ في البلاد والعباد. فالمطلوبُ هُو خدمةُ النَّاس فهم أسيادنا ونحن لسنا أسيادهم على الإطلاق. والمُنتظَرُ هو إطلاقُ دفعةٍ من هواءٍ نقيٍّ في الأرجاءِ يَقوِّي النَّزَاهةَ الضَّروريَّة لإنهاضِ البلادِ من كَبْوَتِهَا وَلِعَودتِهَا إلى الحياةِ الكفيلة بالعدالة لجميع الناس. لهذا يُطالب الشَّعبُ مَسؤُولِيهِ بأن يكونوا في هذه المرحلة يدًا واحدةً وقلبًا واحدًا من أجلِ لُبنانَ. فالإصلاحُ لا يَتمُّ إِلاَّ بتضامنٍ وطنيٍّ شاملٍ، لا لِبْسَ فيه ولا تردُّد. وأنتم يا فخامة الرئيس ومعكم القادة الخُلَّص النبلاء، قد تجنَّدتم لهذه المهمَّةِ المُنقِذَة لِلُبنانَ. فَلُبنانُ يَحرزُ وَلُبنانُ يَستحقُّ أن تتعبوا من أجله وسوف تكتب أسماؤكم في كتاب تاريخه المجيد بأحرف من نور.
ولنذكر الأبطال الَّذين كانوا يُواجِهُونَ المُستَحِيلَ، وهم على غير علم بأنَّه مستحيل، ولذلك قاموا به وصنعوه. فكلُّ عيد ولبنان وأنتم بخير، وَلْيَحفَظِ الرَّبُّ كنيستَنَا في الوطن وبلدان الانتشار ولتبقَ خميرةً صالحةً في عجين مُحِيطِهَا حَيثُمَا حَلَّتْ، وَلْيَحمِكم الرَّبُّ القدير، سَاكِبًا في كلِّ حينٍ عليكم وعلى جميع اللبنانيين فيضًا من نِعَمِهِ وَبَرَكاتِهِ. آمين.
http://bit.ly/2I2CCkQ