recent
أخبار ساخنة

المؤتمر الأكاديمي الأول حول الفلسفة اللبنانية في جامعة الروح القدس

الصفحة الرئيسية


نظم كرسي كمال يوسف الحاج للفلسفة اللبنانية في جامعة الروح القدس -الكسليك المؤتمر الأكاديمي الأول حول الفلسفة اللبنانية تحت عنوان: "لماذا الفلسفة اللبنانية وما الحاجة إليها اليوم؟"، في حضور المطرانين سمير مظلوم وسمعان عطالله، الأب العام مالك أبو طانوس، النائب إيدي أبي اللمع، وجمع من المقامات الدينية والديبلوماسية والسياسية والقضائية والنقابية والتربوية والمدنية...، في حرم الجامعة الرئيسي في الكسليك.
 
الأب حبيقة
استهل المؤتمر بمحاضرة رئيسية ألقاها رئيس جامعة الروح القدس – الكسليك الأب البروفسور جورج حبيقة الذي قال: "أن يتفلسف الإنسان، فهذا أمر طوعي وبديهي. فالمصطلح الألماني الشهير لهذه العملية التذهّنية التلقائية، Weltanschauung، والذي فرض ذاته على جميع اللغات، إذ تتعذر ترجمته، يزخر بالمدلولات التالية: إن العالم الوحيد، Die Welt، الذي نختبر فيه سرّ الوجود وسرّ الحياة إنما هو عالم المحسوسات. فيه ومنه ننطلق في مغامرة المعرفة. ومنه نقلع إلى مساحات الروح. هو قدرنا المحتوم في تدرجنا الإدراكي وفي ارتقائنا الحلزوني في مدار المعارف إلى اللاّمتناهيات. لا شيء يقوى على إعتاقنا منه أو على إخراجنا منه ما دمنا في ضيافة الحياة. والفعل الألماني anschauen يفيد أن الانسان يقارب كلّ شيء في الوجود عبر طبقات متلاصقة، تزداد عمقا وتعقيدا كلما توغّلنا بعيدا عن الطبقة القشريّة الخارجية. هذه الأخيرة هي أشبه بالقناع الخارجي الخادع والأكثر سطحية. من هنا الفعل الألماني anschauen يشدّد على إلزامية رؤية جميع المسائل والأمور من الداخل، من الجوف، على إلزامية الغوص إلى المطاوي الأكثر حميميّة التي لا يراها إلا المتبحّر، إلا العاشق العنيد للمدارك الصعبة والعصيّة على المقاربات السطحيّة، وفي وجيز الكلام إلا الفيلسوف في معناه الواسع".
 
وأضاف: "إن هذه الخاصيّة الأساسية في بناء الفكر الفلسفي، والتي تقوم على رؤية المسائل من الداخل والالتزام بما نرى منها وفيها، إنما هي متّصلة بشكل مباشر بمصطلح آخر، لا يقلّ أهميةً عنها، يحدّد الانسانَ في اللغة الألمانية، Dasein، "الكائن ــــ هنا". إن الإنتماء الوجودي الأساسي ليس خاضعا لمشيئة المرء. من منّا اختار أباه أو أمه، أو وطنه أو لغته أو حتى دينه؟ ككائن ـــ هنا، أعي ذاتي مرميا في معادلة أنطولوجية لا دور لي فيها، أتلقّاها وأتبنّاها لأنطلق منها لتحقيق الذات حرّا في مسالك الحياة المتشعّبة والمتعدّدة حتى اللاّنهاية. من الكائن ــــ هنا ينطلق كل شيء، وإليه يعود كل شيء. نستخلص مما سبق أن هناك استحالة لبناء فكر فلسفي، أي بتعبير آخر، لرؤية المسائل والأمور من الداخل والالتزام بها، خارج الكائن ــــ هنا، خارج إحداثيات الزمن والمكان التي تؤطر كياننا البشري. عندها نفقه بعمق مضمون رسالة أفلاطون السابعة حيث يقول: "في سالف الزمان، وأنا في سن الشباب، كنت أشعر ما يشعر به العديد من الناس. كنت أخطّط بشغف لمقاربة السياسة من دون أي إبطاء، يوم سأبدأ بتدبّر أموري". هو أولا وأخيرا ابن أثينا. انطلق من يومياته، من أحلامه من أوجاعه، من خيبات أمله من انتظاراته. إن منظومته الفلسفية لم تلد من رحم اللاّمكان واللاّزمان، من رحم التجريد المطلق. إنها فلسفة الكائن ـــ هنا للبشريّة جمعاء".
 
وتابع: "لم ينخرط أفلاطون في الفكر الفلسفي إلاّ خدمة للسياسة، بحسب المصطلح اليوناني Polis، أي فن إدارة شؤون المدينة وفق متطلّبات النظرة الماورائيّة للوجود. والأمر الذي شحذ همّته ليندفع بدون كلل في هكذا مخطّط إنما هو المصير المأساوي الذي تعرّض له أستاذه ومعلّمه الأكبر سقراط، عندما اتّهمه أعوان المدينة، زيفاً وبهتاناً، بالفساد ودفعوه بالتالي إلى احتساء السّم، قتلاً لسمّ انتقاداته ونظريّاته التي كانت تقضّ مضجع المتسلّطين ظلماً وجهلاً على البلاد والعباد. كانت فلسفته حاجة ماسة لمدينة أثينا، عاصمة الفكر والعلوم والثقافة، المترنحة بين رواسب ديمقرطية بريكليس وديكتاتورية الحكّام الجدد، وفي الوقت عينه رسالة للبشرية جمعاء في ترحالها الدائم صوب غد أكثر خيرا وأكثر حقيقة وأكثر جمالا". 
وأرى "أن مسار كمال يوسف الحاج الإنساني والفلسفي والسياسي والوطني يتقاطع بشكل كامل مع مسار سقراط وأفلاطون معاً. من "الكائن ـــ هنا" استولد فلسفته اللبنانية خدمة للبشرية جمعاء. من الوجع اللبناني وهواجسه وأحلامه، تذهّن نظاما فلسفيا لبشرية متآلفة في الذاتيّات المغايرة. ومصداقا على ذلك النظرة الاستثنائية التي حضن بها البابا القديس يوحنا بولس الثاني رسوليةَ الكيان اللبناني، عندما وضع بلد الأرز على منصّة المرجعية العالمية للدول غير المتجانسة والمتعدّدة ثقافيا ودينيا وحضاريا. وما يلفت القارئَ في تصفُّح الفلسفة اللبنانية بريشة كمال الحاج، أن ليس هناك من انفصامٍ بين الفكر والكفاح، بين الفلسفة والسياسة، بين الرؤية الملتزمة للوجود والكائن ــــ هنا. يقول كمال الحاج في فلسفة الميثاق الوطني: "حيث تنتهي السياسة تبتدئ الفلسفة. والعكس بالعكس. حيث تنتهي الفلسفة تبتدئ السياسة. أما قيل بأن السياسة هي فلسفة واقعية، وبأن الفلسفة هي سياسة مثالية؟"[7/ميثاق، 37] الفلسفة والسياسة تتداخلان وتتكاملان كمحرّك أحد لمجرى التاريخ نحو مصبّه الاسكاتولوجي. ويتابع في هذا الصدد: "لا قيمة لقيم لا يناضل الإنسان في هذه الدنيا من أجل تحقيقها. إنّ القيم لا تتحقق بمعزل عن الإنسان. ذلك أن الله ما أوجدها لتظلّ عالقة في عالم المُثل. لقد خلقها من لدنه كي تتحقق في دنيا الآدميين... في المجتمع البشري. وتحقيقها يستلزم انخراطاً بين الناس، ونضالاً، وحرماناً، واستشهاداً... أعني سخاء الدّم" (٧/معترك)".
 
وأكد الأب حبيقة أنه "لم يأتِ الحاج إلى الفلسفة إلا خدمة للسياسة في مضامينها اليونانيّة، أي خدمة لمدينة الإنسان في تعددية أبعاده الأنطولوجيّة، التي تدفعه إلى أن يحقّق ذاته في أرض، ويلتصق بذاكرتها الحضاريّة والثقافيّة، ويقلع منها إلى الوجود الماورائي في وحدة التّكامل الكياني. الانتماء ركيزة أساسية في جوهر وجود الإنسان الزمكاني وفي طريقه إلى الوجود الآخر. من هنا جاءت فلسفة كمال الحاج لصيقة بالكيان اللبناني كفكرة فلسفية سياسية وجودية، متطوّرة وهادفة، داخل معادلة الزمن".
 
وعن حاضر الإنسان والكائنات جميعها، اعتبر الأب حبيقة أنه "حاضر هارب بين دفَّتي الماضي والمستقبل. وهكذا يتبدّى لنا بشكلٍ لا يداخل اللبس أن الثابت في حاضر الإنسان هو التغيير، والواضح في مستقبله هو الغموض. وفي حركيّة هذا الوجود وتبدليّته وضبابيّته، يسعى الإنسان، ذلك الكائن اللغز، العظيم والهشّ في آن، الملقى في جدليّة حياتيّة لم يخترها ولم يكن هو في أصلها، بل أتته عبر الآخر، إلى تحقيق ذاته ضمن استحقاقات تتدرّج متفاوتة في الأهميّة، حتى تصبّ مجتمعة في استحقاق الموت الذي فيه يتحوّل المستقبل إلى ماضٍ أبديّ. من خلال معادلة الماضي والحاضر والمستقبل، ينبغي على الإنسان أن ينمو كمشروع حياتي مشرّع على كلّ الاحتمالات، تسيّجه المخاطر، نعرف أين يبتدئ ولا ندري كيف، وأين، ومتى، يكتمل أو يسقط. ومن سمات هذا الكيان البشري الأساسية أنّه مسكون أبداً بالقلق، يفتّش من دون هوادة عن حقيقة ذاته وحقيقة الكون المرمي فيه. وكلّما ظنَّ أنّه اقترب منها، اكتشف أن ظنه هو ضرب من التوغّل في الأوهام. من هذه المعطيات الأساسيّة في جوهر الإنسان ومقوّمات الزمن، أنطلقُ في مقاربتي لمكانة الدين في الفلسفة اللبنانية كما فقهها وصاغها كمال الحاج في مؤلّفاته كافة وبخاصة في فلسفة الميثاق الوطني".
 
وأضاف: "في سياق تبيان التصاق البعد الديني بحميمية الوعي لدى الإنسان، يقول كمال الحاج: "أجل ... الدين جوهر. أي أنه وجد مع الإنسان منذ أن سوي الإنسان إنسانا. والتاريخ دليل. إذا نحن استعرضنا الشعوب، القديمة منها والحديثة، رأيناها تماشي الدين منذ البدء أكثر وقبل أن تماشي أية قيمة أخرى من قيم الحضارة" [7/ميثاق 45]. بالفعل، إن ظاهرة الدين وتجاوز عالم المحسوسات وتذهّن وجود آخر هو في أصل عالمنا وفي مصبه، جميع هذه المعطيات واكبت الإنسان منذ البدء. وأعظمُ المعالم الأثرية من الأزمنة الغابرة والحالية تعود في أكثريتها الساحقة إلى البعد الماورائي-الإيماني في وعي الإنسان لسر حياته وصيرورتها عبر استحقاق الموت. ويحضُرني هنا ما ذهب إليه عالم الرياضيات والمنطق والفيلسوف النمساوي لودفيغ فيتغنشتاين (Ludwig Wittgenstein)، بقوله إن الإيمان بالله إنّما هو نتيجة مباشرة لهزيمة العلم".
 
ولفت إلى أنه "في فلسفة أوغست كونط (Auguste Comte)، نقع على مقاربة مختلفة لظاهرة الدين. فهو يرى، في المسيرة التطورية للبشرية، ثلاث حقبات؛ أولاً الحقبة اللاهوتية، حيث يفسّر الفكر كلّ شيء بشكل خيالي وخارق مشركاً في بادئ الأمر الآلهة ثم الإله الأحد في مجرى أحداث الوجود وترابطها وهدفيتها. ثانياً: الحقبة الماورائية، حيث تحل المفاهيم المجردة محلّ القوى الفائقة الطبيعة. ثالثاً: الحقبة الوضعية، حيث يتخلى الإنسان عن التنقيب عن العلل الأساسية وجوهر الأشياء ويكتفي بكشف القوانين التي تتحكم في الأحداث عبر المشاهدة والتحليل. نستخلص مما سبق أن الدين والتدين والإيمان والفكر الماورائي إنما هي، وفق فلسفة أوغست كونط الوضعية، مرحلة عابرة ليس إلاَّ في مسار الإنضاج الذي ينخرط فيه الفكر البشري ويتجاوزه نهائياً ليقيم بشكل ثابت ودائم في استضافة العلم والتكنولوجيا". 
 
وأشار إلى "أن هذه المقاربة دحضها في القرن العشرين مؤرخ الأديان الشهير ميرسيا إيلياد (Mircea Eliade) الذي توصل بعد تحاليله المعمقة لمفهوم الدين في تاريخ الإنسان، إلى إثبات الأمر التالي: إنّ البعد الماورائي المتمظهر في ما نعتبره مقدساً هو من المكونات الأساسية لتفكير الإنسان ووجدانه..."
 
وفي السياق التفحّصي ذاته، تبيّن المحلّلة النفسانيّة جوليا كريستيفا (Julia Kristeva) مدى مساهمة الإيمان في صياغة عناصر شخصيّة الكائن البشري. وفي إحدى محاوراتها القيّمة تتساءل بجرأة وموضوعيّة قائلة:
 
"أليس مستغرباً أن تكون مجتمعاتنا المعلمنة قد أهملت الإهتمام بحاجة الإنسان المذهلة إلى الإيمان؟ [...] إنّ الإصغاء التحليلي يكتفي بفتح آفاق لملاحظات وتنظيرات، إلى كونها تسهّل استيعاباً أعمق للمكوّنات النفسيّة، تظهر إلى أيّ مدى تدخل الحاجة إلى الإيمان في صلب تكوين الفرد الناطق، داخل العلمنة ذاتها بدون أي ريب، وذلك قبل أيّ تأسيس ديني بالمعنى الحصري للكلمة. إنّ المسألة لأشبه بورشة عمل لا تزال حتى الساعة في خطوطها الأولية، وعلينا، بالتالي، تقع مسؤولية مواصلة البناء. إذ إنّني على ثقة أنّه إذا تعاملنا بجديّة مع هذه الحاجة إلى الإيمان، السابقة لمرحلة التديّن، قد نتمكّنُ بشكل أفضل، ليس فقط من مواجهة الانحرافات الأصوليّة للأديان، في الماضي وحتى يومنا الحاضر، بل أيضاً من تجاوز المآزق التي تقع فيها المجتمعات المعلمَنة".
 
وشدد على "أنه من هنا، علينا أن نتعاطى مع الأديان لا كزبد مرضي لاختلال في وظائف العقل كما استساغت تصورَه النظريات الإلحادية، بل كمعطى إنساني مغروز فطريا في جوهر الطبيعة البشرية. فالإنسان يتنفّس الماورائيات، شاء أم أبى".
 
وأكد: "هكذا تعاطى لبنان مع هذا المعطى الجوهري في طبيعة الإنسان، وترجمه فلسفة سياسية وجودية في ميثاق تلاقٍ حضاري بين أديان متمايزة، تتآلف اختلافا في صيغة حياتية تعترف بالآخر المغاير كشريك سياسي كامل العضوية في إدارة شؤون الوطن، مع الحفاظ المتشدد على الذاتيّات المتنوعة والمكونة للنسيج المجتمعي اللبناني. في هذا المضمار، يقول كمال الحاج: "عندما أذود عن لبنان، أكون قد ذدت عن ’قيمة‘. عن نظرة شاملة في الحياة. عن تاريخ بمعناه الإنساني الأكبر"(7/ميثاق 426)".
 
وتابع: "هذا اللبنان "القيمة" و"الجوهر")المرجع ذاته( و"الوطن المطلق" )7/ ميثاق 427(، بحسب مصطلحات كمال الحاج في فلسفة الميثاق اللبناني، كمساحة مصالحة لبشرية متآلفة في الغيرية، لم يكن يوماً، يمكنني الجزم بذلك، بلداً عادياً، وبالتالي باهتاً. وتقوم معجزة استمراريّته على أنه لم يخرج قط من دائرة المخاطر عبر كلّ حقبات تاريخه الطويل والضارب في عمق الزمن الإنساني. قدره أن يعيش في خطر، لأنه بلد الحياة. والحياة لا تنمو إلا في المخاطر (Vivre c’est risquer). ذلك أنه كان على الدوام، حتى الآن أقلّه، تلك المساحة الحرّة والفريدة لبشريّة متألّمة، هاربة من عذابات ماضيها، تائهة في حاضر متقلّب وغامض ومتوجّسة من غد قد يكون أفجع وأهول، في شرق ميّال، بالرغم من تكدّسات حضاراته وثقافاته وتقاطعها الغني، إلى نوع من الأحاديّة اللغويّة والدينية والسياسيّة والمجتمعيّة. من مصائب هذا الشرق الكبرى، استناداً إلى اطّلاعي الوثيق على الحركات الدينية والسياسية، منذ القرن التاسعَ عشر حتى القرن الواحد والعشرين، أنه يتوهّم أن الوحدة التي يسعى إليها كمدخلٍ إلى القوّة المنشودة، تولد من رحم الانصهار. وحده لبنان الذي تأنسن حتى المرض والهزال على وقع حريّات الناس وتطلّعاتهم وآلامهم وتشرّدهم، استطاع أن يُسقط، بممارسةٍ يوميّة دؤوبة وهادفة، مبدأين خطيرين، بحسب اعتقادي، الانصهار الذي يستعمل حصرا للمعادن لا للبشر والتسامح الذي يلغي حق الانسان الطبيعي في الاختلاف. هذان المبدآن يتعارضان وحقوق الإنسان الطبيعيّة والأساسيّة، ويتهدّدان بالتالي، باستمرار، شرقنا الذي غالباً ما ينزلق إلى منطق اختزال الآخر المختلف وتهميشه ثم إلغائه. إن صرخة كمال الحاج "أنا طائفي ... وسأظل ...") 8 /سأبقى 1 (، - التي تجسد بأبهى حلة بيانية وعي الإنسان لذاته في غيريته المنفتحة والمتفاعلة والمحترمة لذات الآخرين، وفق المبدأ الفلسفي، عليك أن تكون ذاتَك لكي تكون مع الآخر، ووفق مبدأ الفرادة في مفهوم التلاقي الثقافي والحضاري الصحيح".
 
واعتبر أنه "انطلاقاً من حقوق الإنسان الطبيعية، فالكائن البشري لا يستجدي وجوده من أحد، وبناء على ذلك، فهو ليس بحاجة إلى تسامح الآخرين في حقه اللامنقوص في الوجود الحر وبالتالي في الاختلاف. له الحريةُ المطلقة في أن يكون كما هو يريد أن يكون، ضمن حدود احترام الآخر في الأمور عينها والمحافظة على السلم العام. هذا المنطق الذي أدى إلى قيام لبنان والميثاق اللبناني والطائفية البناءة، يجد دعما قويا في ما يسميه تشارلز تايلور (Charles Taylor)"سياسة الاختلاف" (la politique de la différence). فهو يقول: "قبل نهاية القرن السابع عشر، لم يكن أحد يفكر بأن التمايزات بين البشر تحمل مدلولا معنويا وشخصيا. إن هناك طريقة خاصة لكي أكون كائنا بشريا، ألا وهي طريقتي أنا. إنني مدعو إلى أن أعيش حياتي بهذه الطريقة، وليس بتقليد شخص آخر". وينتهي في تحاليله إلى إطلاق مبدأ الفرادة (le principe d’originalité) الذي يجب أن يرافقَ تكوين المجتمعات الديمقراطية ويؤطّرَ سياساتها وبرامجها التنموية. وفي السياق ذاته، تشدد ماري غاي (Marie Gaille) في مؤلفها "المواطن"، على "أن كل واحد منا إنما هو فريد من نوعه ولديه أمور ما ليقولها، ليس بمقدور أي شخص آخر أن يعلنها. في مجتمع ديمقراطي، على الحكومة، وهي تعترف بالمساواة بين المواطنين، أن تعطي الجميع الفرص عينها لتنمية الذات الحقيقية". إن هذا الحق في الاختلاف، الذي يقوم عليه لبنان، مجتمعا ودولة وحكما، يتعارض كليا مع مفهوم التسامح". 
 
وشدد على أنه "هذا هو البعد الذي سعى لبنان دوماً إلى عيشه، - والذي فقهه بعمق كمال الحاج في مقاربته-المرجع لفلسفة الميثاق اللبناني في الطائفية البناءة، - بإعطائه كل مضطهَد وكل هارب وكل امرئ خائف على ذاته في هذا الشرق المعلّق على خشبة الأحادية، بعضاً لا يستهانُ به من حقّه الإنساني في وجودٍ حرٍّ ومتفاعل".
 
ولفت إلى أنه "في آخر المطاف، لم يكتب كمال الحاج الفلسفة اللبنانية بقلم تحليلي، يجمع عمق المقاربة إلى رونق الأسلوب وحسب، بل كتبها أيضاً بقلبه وروحه ودمه. إنه فعلا شهيد رسولية الكيان اللبناني؛ شهيد الميثاق اللبناني والصيغة اللبنانية المتجسدة في الطائفية البناءة التي دفعت البابا يوحنا بولس الثاني إلى إعلان لبنان رسالةً للمجتمعات البشرية جمعاء؛ شهيد لبنان الواحة المميَّزة للتلاقي بين الإتنيّات والأديان والثقافات في حضارة المحبّة، وفي منطق قبول الآخر كجزءٍ من الذات في وحدة الإنسانيّة؛ شهيد لبنان الذي أعاد الحياة إلى "حلف الفضول" و"صحيفة المدينة"، وأرسى أكبر ديموقراطيّة توافقيّة في أصغر مساحةٍ حرّة لبشريّةٍ متصالحة مع ذاتها في الاختلاف والغيريّة والتعدّدية".
وختم الأب حبيقة معلنًا سعيه "إلى إدخال الفلسفة اللبنانية كما أرسى مداميكها الأولى كمال يوسف الحاج، في منظومة المقرّرات التي تشكّل التنشئة العامة في شهادة الإجازة أو البكالوريوس. وتقوم أهميّة هذا البناء الفلسفي على أنه وليد "الكائن ـــ هنا". هذه الفلسفة تجذّر الطلاب في الحالة اللبنانية وفرادتها وتزوّدهم بالمعارف الضرورية لكي يتبنّوا بحماس واندفاع استثنائية لبنان وتدفع بالتالي عشّاق الفلسفة بينهم إلى متابعة وتطوير وتأوين ما أرساه مؤسّس الفلسفة اللبنانية، رفداً للفكر الفلسفي العالمي".
 
طاولتان مستديرتان
ثم انعقدت الطاولة المستديرة الأولى بإدارة د. كارين نصر دمردجيان من جامعة الروح القدس – الكسليك وتحدثت فيها د. باسكال لحود من الجامعة الأنطونية عن "التفلسف في حضرة الموت: كمال يوسف الحاج نموذجًا"، وتناول د. رمزي أبو شقرا من الجامعة اللبنانية موضوع: "الحجّ إلى الكمال في اختيارات كمال الحاج اللسانية: مقاربات أولى في الموقف اللغوي"، وألقت د. وفاء أفيوني من الجامعة اللبنانية مداخلة بعنوان: "في التفلسف اللبناني: أبعاده و آفاقه".
 
وأدار الطاولة المستديرة الثانية د. جوزف خليل من جامعة الروح القدس – الكسليك، وتحدث فيها د. محمود حيدر، أستاذ محاضر في الفلسفة والإلهيات عن معاثر الميتافيزيقيا المعاصرة، وتناول د. فرانك درويش من جامعة البلمند موضوع: Kamal El-Hage: la Terre libanaise ajournée .
 
نعمة
وكانت مداخلة لاستاذة كرسي كمال يوسف الحاج البروفسور هدى نعمة بعنوان "العودة"، وجاء فيها: "تحضرني في هذه اللحظة أسئلة الباحثين الغربيين عن امتناع الصروح الجامعية من احتضان الفكر الفلسفي اللبناني، وعن تخاذل المفكرين، الّا يسيراً منهم، عن نبش الماضي القريب والبعيد، لرفع الحجاب عن الفكر الذي منه جبلت هويتنا، علماً أنه من شواطئ بلادنا كان الحرف، وكانت، بالتالي، الأبجدية، فتلازم العقل والكتابة، وصار "اللوغوس" هو العقل المكتوب. فمن " المعين في دراسة القضايا الجلية" لفرفوريوس الصوري، إلى "الجمع بين اللاهوتي والفلسفة العددية" ليمبخيوس العيطوري، من بلدة كلسيس، أو مجدل عنجر اليوم، إلى المدرسة المارونية في روما، حيث ممارسة الحق في الجدل الفلسفي أعاد تموضع الحجر الأساس  في بناء الفكر اللبناني، وقد اشتدّ عصبه في القرن التاسع عشر، واحتشدت في نهضته مفاهيم، وبرزت فيما بعد عمارة فلسفية لبنانية جديدة، اسس لها كمال يوسف الحاج،  وكلها، تميزت بنزعتها التوفيقية في جمع المتناقضات في بوتقة لبنانية من دون الازاحة، قيد أنملة، عن التوفيق بين المثالية والواقعية.
 
ولما شملني الشرف الأثيل بأن أكون أول أستاذة لكرسي كمال يوسف الحاج للفلسفة اللبنانية، أردت له ان يكون المنبر الواعد لإحياء الفلسفة اللبنانية، رداً على من يدعي أن اللبنانيين، ومعهم البيئة العربية، عاجزون عن مشاركة العالم في دنيا الفلسفة، وتحفيزاً لاستعادة الفلسفة منزلتها الروحية، وإسهاماً منها في تخصيب الحضارة الإنسانية، وذلك، لأننا، نحن اليوم، "في حاجة إلى فكرٍ واعٍ [...] نحن في حاجة الى أن نعمل مفكرين ونفكر عاملين، فنحن في حاجة إلى فلسفة لا إلى ألسنة تلعلع من على المنابر". (خطبة، من نحن، القيت في الجامعة الامريكية في بيروت في ١٠/٥/١٩٤٥ - كمال الحاج). وكلّ ذلك في سبيل إضفاء معنى على ذاتنا وعلى وجودنا، وعلى العالم الّذي نعيش فيه، عن طريق الفلسفة وفي فضائها".
وتطرقت في مداخلتها إلى محورين أساسيين، هما: "العودة الأولى: مَنْ نحنُ؟ والعودة الثانية: الهوية. وعن المحور الأول، قالت: "تتأسّس العودة الأولى على عمليّة بعث لفلسفة شعب بأكمله، ركنها الرّئيسيّ العقلانيّة الهادفة الى الموازنة بين الأضداد. وأين الغرابة في مثل هذه الرؤية السبّاقة والداعية الى التاريخ العادل، وفي الأمس القريب، تمّ إعلان "وثيقة الأخوة الإنسانية"، في أبو ظبي، بين الأزهر الشريف والكنيسة الكاثولكيّة، وأبرز ما جاء فيها اعتماد عقلانيّة واقعيّة بعيدة عن المغالاة والتطرف... 
 
لقد تجاوبت العودة الأولى مع وضع الحاج العقل في مرتبة الحسّ السليم، بتلازم منسجم مع الواقع اعتبارًا منه أن الانسان يصمّم عيشه كما يريده، وهذه الإرادة العاقلة الحكيمة تتلازم مع الإيمانيّة، وإن بدا مثل هذا التلازم موضوع تساؤل واستغراب عند البعض، سنوضح أن هاجس كمال يوسف الحاج، من حيث إصراره على المبدأ الايماني، الّذي يشاؤه للفلسفة اللبنانية، يتجسّد في أمرين: الأوّل يعتبر "الدّين في لبنان موجوداً منذ ما قبل التاريخ، واللادين فرع"، والثاني يعتبر "أنّ الدين وحده هو الثّابت فوق أرضنا". وعليه تكون علمانيتنا مُحاوِر للعلمانية المنفتحة التي هي في صلب فلسفة الكرسي..." 
 
ثم اعتبرت أنه "في "من نحن" نتبين مع الحاج أن الفلسفة منهج تفكير لا أكثر، "والدين أرسخ وجوداً، واثبت جذوراً، وأينع ثماراً.  وأبعد حساباً. وأضمن خلوداً. وألصق بالنفس البشرية"، وأن "لبنان عقل"، فبالفلسفة التي تنبع من ارضه وترشح من سمائه، يدرك اللبنانيون هويتهم [...]، فيطلون على العالم بالفل والسف، أي التكسير والتركيب، وقاعدتها الأساسية "أنا" متجذّرة متجدّدة مشاركة، "إنسانها يهدُم خارجه ليبني داخله، يهدم القشور في تراثه ليبني اللّب من تراثه، يهدم بيساره ليبني بيمينه، يهدم نفسه بنفسه لئلا يهدمه غيره"(الحاج، مج١، ص٢٤) ليفهم الاجتماع الإنساني أن الفلسفة لا تستورَد، شأنها شأن القوميات التي تنبت من الأرض والإنسان والحضارة الخاصة به".
 
وعن "العودة الثانية: الهوية"، رأت البروفسور نعمة أنّ "الحاج هو فيلسوف القومية اللبنانية في وجه القوميات الهاضمة للوجود والتاريخ، وفي وجه أخرى ملغية للآخرين بصهرها المجتمعات في أتون الايديولوجيات العقيمة، وهو، بالتالي، حكيم الأمة العربية، ومنقذها من التلاشي والذوبان في هوية آحادية عنصرية فاتكة بالكرامة الانسانية. مع الحاج نستعيد هوية من صنع الفكر الذي يحمل رسالتنا الفلسفية الهويتية نحو الشعوب العربية، وأبرز مظاهر هذه الرسالة تجلّى في نحت مصطلح "النصلامية" الجامع بين النصرانية والإسلام في قومية واحدة، انتقائية الاتجاه وتوفيقية، تفلسف لوجودنا تجاوباً مع رسالة لبنان التاريخ العصي على الغلبة والموت. ألم تتضمن "وثيقة الأخوة الانسانية" البعد التوفيقي الجامع للديانتين الكبريَين في العالم؟ ... 
 
في اعتبار الحاج الفلسفة مشروعاً سياسياً، وفي اعتباره السياسة تحقيقاً فلسفياً، اعطى الحاج الفيلسوف الحقّ في أن يهيئ مناخاً فكرياً يسهم في إحداث التحويل الاجتماعي الضروري والملح والمناسب لقومه. فهل نلوم إنساناً اتخذ الفكر سماءه وأرضه وعالمه، وآمن أنّ بالفكر وحده كنا ونكون وسنظلّ كائنين؟" 
 
وخلصت إلى القول: "العودة معا الى ورشة العمل الفلسفية لنضيء، مع أصحاب الإرادات الطيبة، شمعة في ديجور هذا الوطن المتعب، ولندع أجيالنا الشابة تعي ما قاله الحاج وما نردده اليوم، وتحدد خياراتها، لتبقى عندنا الفلسفة "الفاتحة" إلى ما أقمَحَت المعارف إلا بها، فما تقمّر ليل شعب، أو تشمّس تاريخ قوم إلا بها".   
 


http://bit.ly/2T0CMOx


google-playkhamsatmostaqltradent