د.سناءالشعلان/ الجامعة الأردنية
SELENAPOLLO@HOTMAIL.COM
بماء القدر
والمسرّات والأحزان كُتب في سفر الخلود...
"
في محكمة الموتى انعقدتْ المحكمة بكامل هيئتها المقدّسة في قاعة العدل ،(أوزيريس)
يغوص في عرشه الذهب في صدر القاعة،على يمينه زوجته (إيزيس)،وعلى يساره ابنه (حورس)،وبين
أيديهم وقف كاتب الآلهة (تحوت)،وقد أحاطت به كراسي ذهبية شغلها الخالدون،تقدّم (تحوت)
خطوتين من عرش (أوزيريس)،وطالع سِفْره الخالد ،وصرخ بصوت جهوري: الروائي العربي
نجيب محفوظ.
فدخل من الباب في أقصى القاعة رجلٌ متلفعٌ
بكفنه،عاري الرأس،حافي القدمين،وأخذ يقترب من العرش بقسمات هادئة،ونظرات ثابتة.فأومأ
(أوزيريس) إلى (تحوت) كاتب الآلهة، فقرأ
من سِفْره:
أعظم روائي
القرن العشرين،مصري صاحب رؤية قومية إنسانية،له الكثير من الإنجازات الإبداعية،فقد ألّف 34 رواية،و15 مجموعة قصصية، وقصتين
للأطفال،وترجم كتاباً واحداً،وقدّم الكثير من المقالات،كما ألّف 7 مسرحيات،وكتب
السيناريو لـ25 فيلماً. وتُرجم عددٌ كبيرٌ من أعماله إلى لغات متعدّدة، ولا سيما
إلى الفرنسية والإنجليزية بعد حصوله على جائزة نوبل للآداب عام 1988، وكان قد حصل
مسبقاً على جائزة الدولة التشجيعيّة في الرواية عام 1959.اشتغل في أوّل حياته
بكتابة الرواية التاريخية ثم انحاز إلى الرواية الاجتماعية،ثم ركن في نهاية مسيرته
الإبداعية إلى الرواية الفلسفية.
قال (أوزيريس) مخاطباً نجيب محفوظ:هات ماعندك.
قال محفوظ ونظرة عميقة تسكن عينيه:ياقاضي محكمة الخلود
لقد لخّص كاتب الآلهة حياتي في كلمات،فما أسهل الكلام وأشقٌ العمل!
-ابنْ.ماذا تريد أن تقول؟
- أريد أن أقول انّ مسيرتي قد نافت على الخمسين
سنة،انقطعت فيها لإبداعي،فما سافرتُ خارج مصر إلاّ مرةواحدة،وما تزوجتُ إلا بعد
منتصف العقد الخامس من عمري،وقسرتُ حياتي على أسرتي وعلى عملي وعلى كتابتي، حتى
جادتْ قريحتي بما جادتْ به.
تقول (إيزيس) بنبرة حانية مشفقة: ولكنك أسخطت الكثير
عليك بسبب بعض ما كتبت، وكدتَ تلقى حتفك بسبب ذلك في محاولة فاشلة لاغتيالك في عام
1994.أظن أنّك قد أسأت يا بني في روايتك(
أولاد حارتنا) إلى الأنبياء.
-نعم أغضب بعض ماكتبت الكثير من الناس.ولكن ليس لأنني أسأت،بل لأنّهم أساءوا الفهه،وتعجلوا الحكم،أنا لم أعد كتابة
التاريخ الديني،ولم أتحدّث عن الأنبياء،ولكنّني وظّفت تجربة النبوة لرسم مسار تاريخ الصراع بين الحق والظلم في الأرض،وما أردت بذلك إلاً أن أقول
لكلّ إنسان :هكذا جاهد وقاتل الخالدون دون مبادئهم وآرائهم.فلماذا لا نكون مثلهم؟!
قال (حورس) بصوت عميق وهو يتفرّس ملامح نجيب محفوظ: إذن
أنت لم تقصد الإساءة إلى الأنبياء؟
-أبداً .فأنا قد ترعرعتُ في أسرة متديّنة،لم تعرف إلاّ
التدين والاستقامة منهجاً في حياتها.
-ولكنّك ذكرت مراراً إنّ العلم هو طريق الخلاص.
- العلم مهم للغاية،وهوطريق النجاح، أناأحبّ
العلم،وأنادي به كي تنهض أمتنا،ولكنّه لن يكون بديلاً عن الدين،بل سيكون العون له
لتحيق رسالته في إحقاق الحق،وإقامة العدل،وديننا الحنيف يدعوإلى العلم والتعلّم.
قال (أوزيريس): ولكنّك يانجيب لم تخلص لفنّك، ولم تعكف
نفسك عليه ،بل انشغلتَ طوال عمرك بالوظيفة الحكومية.
- كان علي أيّها القاضي العادل أن أعمل بسبب حاجتي
المادية، ولكنّني سرعان ما اكتشفتُ أنّ الوظيفة الرسميّة وسيلة لمشاهدة النماذج
البشرية، وللتعامل معها عن قرب .
قالت (إيزيس) بعطف بالغ،وبتأثر واضح بنبرة محفوظ الصادقة والدافئة:أنت يابنيّ قد
سجنتَ نفسك داخل مصر وفي أروقة تاريخها الفرعوني وفي حاراتها،ولم تتنفس أجواء وطنك
العربي الكبير، ولم تتكلّم عنه في رواياتك. أنت متهمٌ بالإقليمية.فما قولك؟
- كان مولدي في حي الجمالية، وهو أحد أحياء الحسين،وفي
حي الجمالية الذي يقع في قلب القاهرة القديمة يعيش أبناء الشعب جيلاًً بعد جيل.
وقد عرفتُ في هذا الحيّ الحياة الشعبية
وعادات سكانها، وقد غدتْ الحارة عندي ذات بعد رمزي للمجتمع والعالم، أيّ رمزاً للحياة
والبشر.
وقد جسّدتْ في أعمالي حياة الطبقة المتوسطة في أحياء
القاهرة، فعبّرت عن همومها وأحلامها، وعكستُ قلقها وتوجّساتها حيال القضايا
المصرية، كما صوّرتُ حياة الأسرة المصرية في علاقاتها الداخلية، وامتداد هذه
العلاقات في المجتمع، متناولاً كلّ المعاني الإنسانية لمجتمع مصر بكلّ صراعاته
وتطوّراته المختلفة مع كلّ جديد في الحضارة الحديثة.
وإن كان الرائي يحسب أنّ ما أكتب هوحكر على مصر وعلى
حاراتها،فحكمه متعجّل وغير دقيق،فأنا عندما كتبتُ عن الإنسان المصري في رحلة صراعه
مع الظلم من أجل الحق والعدل والإخاء
إنّما عنيت الصراع الإنساني من أجل حقوقه
في كل ّمكان.أمّا التفاتي إلى الحقبة الفرعونية في مصر فقد كان تأدية لحق بلادي في أن أخلّد تاريخها العظيم،وأن أنفض الغبارعن
بعض صفحاته المشرقة،وأن أجعل أمجاده نبراساً لكلّ ّباحث ًعن الشمس والنور.
-وماذاعن كتاباتك الجرئية في بعض المواضيع لاسيما عن
المرأة والجنس؟
- الكاتب الصادق
والمبدع الحق لا يمنعه خجل من أن يضع إصبعه
على مكان الداء،ولو كان الداء في أخبث الأماكن،وقد
كلّفت نفسي وزر قول الحق وفضح المخازي، فلا عجب إذن أن أكتب بكلّ جرأة ،وقد سمحتُ لنفسي
بأن أوظّف الجنس في رواياتي،ما دام لذلك هدف فني وإنساني وراقي،وليس الأمر في موضع التجارة أو الهبوط أوتسليع المرأة،فلقد
كنت ُدائماً حريصاً على مكارم الأخلاق حتى أنّني قمت وأنا طالب في المدرسة بتأسيس
جمعية لمحاربة الألفاظ النابية المنتشرة على ألسنة الطلاب.
يتنحنح (أوزيريس)ويقول بصوت حازم: ولكنّك لم تكن ممن
واجه السلطة، أو أدار لها ظهرالمجن؟ بل كنت مهادناً ليناً.
قال نجيب بثقة:
أنا لم أكن جباناً أوصحب مواقف متلوّنة،ولكنّني ضننتُ على موهبتي على أن تتعفّن في غياهب المعتقلات،لذلك فقد
قلتُ كلّ ما أريد أن أقول،ولكن عبر رواياتي،وكان لصوتي الغلبة والتأثير المنشودان.وقدكنت
حتى اللحظة الأخيرة من حياتي ملتزماً بقول ما أريد، ونظرة على (
أحلام فترة النقاهة) وهي آخر إنجازاتي
تشهدعلى ما أقول، وهي أحلام تقوم على على اقتناص المفارقة، والتقاط ما يثير
روح التحفّز في القاريء بما يتعلق بموقفي من السلطة.وقد صُغتُ فيها أفكاري عن
العدالة الاجتماعية، وعن ثنائية الشعب والسلطة.
- يبدوأنّنا ما أنزلناك بعد يانجيب محفوظ حق منزلتك.
يقول (أوزيريس)مبتسماً وهو يطالع وجه زوجته (إيزيس).
تقول ( إيزيس) بإبتسامةحانية: ابننا البارنجيب لم يكن
عبقريا ًوحسب،بل كان إنسان محبٌّ للضحك للنكتة وللموسيقى وللطرب، متعلّقاً بصوت
صالح عبد الحي، وبصوت محمد عبد الوهاب، وبصوت أم كلثوم، التي سمّى إحدى ابنتيه على
اسمها، كما أنّه تميّز بصوته الجمهوريّ، وبسرعة ابتداعه للفكرة. وكان صديقاً
للناس، يخاطب العامة، ويزور المقاهي، ويلتقي الأصحاب، وهو فضلاً عن كلّ ذلك متواضع
ينصت للناس باهتمام، ويناقشهم بصبر وبهدوء وبتفهّم.لقدكان نِعم الفنان الإنسان الطيب
الخيّر.
- لقد آن لك يا نجيب محفوظ أن تتخذ مكانك بين الخالدين.
اقترب واجلس على يميني ها هنا،حيث ينبغي لأمثالك من العباقرة الذي حفروا أسماءهم
بالذهب في سِفْر البشرية.
يتقّدم نجيب
محفوظ بكلّ تواضع من (أوزيريس)ويتخذ مكانه بين الخالدين بعد رحلة مضنية وطويلة...".