recent
أخبار ساخنة

لبنان وسوريا محكومان معًا بعلاقة استراتيجية (بقلم جورج عبيد)

الصفحة الرئيسية


سوريا ولبنان يجيئان من تاريخ واحد، وجغرافيًّا هما ملتصقان من نهر الكبير والعريضة، إلى حدود عكار وصولاً إلى الهرمل وجرود رأس بعلبك والقاع وعرسال وصولاً إلى قوسايا والبقاع الغربيّ وشبعا، هذا تراه إذا كنت في سورياعلى الضفة الثانية، من العريضة إلى وادي النصارى وتلكلخ، مرورًا بطريق طرطوس طرابلس، حمص ومن حمص إلى دمشق، مرورًا بدير عطيّة صعودًا نحو جرود معلولا، وصولاً إلى النبك وصعودًا إلى صيدنايا، ومن هناك ترى البقاع الشمالي والأوسط وصولاً إلى البقاع الأوسط بلوغًا نحو جبل الشيخ، ومن بلودان تتواصل مع قوسايا وكفرزبد وصولاً حتى زحلة، وفي الطريق من دمشق إلى حوران والجولان يتراءى أمامك البقاع الغربيّ بجباله ويبقى جبل الشيخ المدى الجامع بين لبنان وسوريا وفلسطين المحتلّة.
 
يدلّ ذلك إلى عمق اللصوق بين خطّين متوازيين مترائيين ولكنهما متلاقيان ومتواجدان ما بين السهول والجبال، فمن منجز أو شدرا أو رمّاح أو العوينات في عكار يمكن رؤية قرية عزير وتلكلخ وقلعة الحصن ووادي النصارى بامتداد قراه، ومن قريتيّ المشتاية ومرمريتا في الوادي يمكن التمتّع بجبال عكار لا سيما جبل القمّوعة، فضلاً عن التزاوج والمصاهرات العائليّة بين عائلات الوادي وعائلات عكّار، أليست جذور الموارنة ككيان مكوّن سوريّة تعود إلى حلب ومحيطها، فهل يسوغ التنكّر للجذور التكوينيّة وإلغاء التواصل الجغرافيّ والتصاهر العائليّ كرمى لأحقاد ماضويّة يراد إسقاطها في الحاضر والمستقبل؟ هل يجوز أن نستلقي على كبرياء فارغ أو عمالة فاغرة أو عمولة فاجرة لاستبقاء القطيعة بين لبنان وسوريا، ونمنع اللبنانيين لا سيّما التجار من الاستفادة من معبر النصيب وصولاً إلى الأردن والخليج، أو من دير الزور في مراحل لاحقة وصولاً إلى العراق والعالم العربيّ؟
 
قبل الغوص في الواقع الراهن، لا بدّ من لفت النظر بأنّ ثمّة شخصيات سورية ولبنانية، ارتبطت بنضال مشترك لا سيّما منذ القرن التاسع عشر بوجه العثمانيين ومن ثمّ بوجه الفرنسيين، وقد كانوا روّدًا في العروبة، وغاليتهم من المسيحيين. فعلى سبيل المثال لا الحصر، كان عمّ والدي الدكتور الياس عبيد، وهو طبيب متخرّج من الجامعة الأميركية في بيروت وشاعر ونائب في المجلس النيابيّ السوريّ وأحد مؤسّسي الكتلة الوطنيّة إلى جانب فارس الخوري وشكري القوتلي ونوفل الياس وميخائيل إليان، أحد الذبن ناضلوا بوجه استعمار العثمانيين نضالاً شرسًا مع مجموعتين من لبنان وسوريا كادت تكلّفه أن يكون أحد شهداء السادس من أيار سنة 1916، وقد سيق إلى عاليه من أجل الحكم عليه وقد نجا بأعجوبة. في كلّ تلك المراحل لم ينفصل البلدان عن بعضهما البعض إلاّ حين قرّر الفرنسيون إنشاء دولة لبنان الكبير وإعلانها سنة 1920، وعلى الرغم من ذلك بقيت العلاقات بين العائلات هنا والعائلات هناك، حتى إنّ فئة كبيرة في لبنان رفضت قيام دولة لبنان الكبير لا سيّما في مؤتمر الساحل المنعقد على مرحلتين، أي سنة 1932 و1936، وأكّدت انضمامها إلى سوريا.
 
ليس همّي في هذه العجالة الغوص في التاريخ كثيرًا، واستعراض تفاصيله سواء بالنقرير أو التبرير. فالتاريخ رجراج بتراكم تلك التفاصيل، ومشحون بالجراح أحيانًا كثيرة. ما يعيشه اللبنانيون في علاقتهم مع السوريين في الزمنين المعاصر والحاضر اجترار لشحن عقيدي صاخب ما زال يدغدغ عقول بعضهم وعواطفهم، ويصطفّ غالبًا في قوالب طائفيّة ومذهبيّة أو أمميّة، من جرّاء قراءة بعض السوريين الخاطئة للبنان ككيان وبلد على أنّه وليد الفرنسيين وليس وليد نفسه أو وليد التاريخ، ومن جرّاء قراءة اللبنانيين لسوريا على أنها في نظامها لعبت دور الوصيّ القابض والقامع بشراسة والمقرّر عن اللبنانيين ما يجوز وما لا يجوز، من دون إدراك أن هذا التعاظم نما بسبب "التفويض" الأميركيّ لسوريا في عهد الرئيس حافظ الأسد بالدخول إلى لبنان سمة 1976 وقمع فتح أو منظمة التحرير الفلسطينيّة، ليتكرّر المشهد إياه بمقايضة واضحة ما بين الكويت ولبنان، دخل حافظ الأسد شريكًا مع الأميركيين الكويت فكسب لبنان ثمنًا، وولد الطائف من رحم هذا الثمن بمشاركة سعوديّة. الخطأ الاستراتيجيّ في تلك المراحل بأن المعترضين على وجود سوريا في لبنان لم يعترضوا على التفويض الأميركيّ والبيع الأميركيّ للبنان ما خلا العماد ميشال عون في حرب التحرير، وحتى في مؤتمر لوس أنجلوس. الجميع صوّبوا سهامهم نحو سوريا وحموا أميركا من السهام.
 
أهمية ميشال عون أنّه وبعد خروج سوريا ذهب إليها كبيرًا وقرّر مصالحتها مصالحة الأبطال الشرفاء العظام. لقد قال الرئيس السوريّ بشّار الأسد، لقد حاربنا بشرف وصالحنا بشرف. قرأ المراحل الاستراتيجيّة المتواصلة مع حركة الضجيج المثارة في الشرق الأوسط ورآها خطيرة وقد تطيح بالمعادلات الجوهريّة التي حافظت على التوازن بين المكوّنات المشرقيّة، كان اغتيال الرئيس رفيق الحريري علامة الإطاحة الثانية بعد الدخول الأميركيّ إلى العراق، وحرب تموز سنة 2006 أي الحرب الإسرائيليّة على لبنان، قاد الرجل مسيحيي لبنان وموارنته إلى جذورهم المشرقيّة بفهم دقيق وناضج، وارتبط بوثيقة تفاهم مع حزب الله في الرابع من شباط من سنة 2006 قبل ذلك، فاحتضن التيار الوطنيّ الحر مهجري الجنوب في السنة عينها، وخلال الحرب على سوريا آزر برافعة مسيحية حزب الله بالدخول إلى سوريا وقتال القوى التكفيريّة فيها فكانت معركة القصير بداءة البدء في الفتح المبين الذي حرّر ثلاثة أرباع سوريا من وحشيّة تلك القوى.
 
في وثيقة التعاون والتنسيق بين لبنان وسوريا خلال عهدي الرئيسين الياس الهراوي وحافظ الأسد، اعترفت سوريا للمرّة الأولى بسيادة لبنان واستقلاله، وهو اعتراف عقيديّ، من بعدما اعتبرته "عقيديًّا" في السابق خطأً تاريخيًّا. اعترفت به وطنًا ودولة وكيانًا له جيشه وحدوده وقد كانت تخشى من أن يبقى شوكة في خاصرتها، أو مقرًّا وممرًّا للمؤامرات عليها. احترمت سوريا "قدر الإمكان" الخصوصيّة اللبنانيّة، وأدركت أن لا بدّ من توسيع الحالة الميثاقيّة اللبنانية لتتحوّل إلى شبكة أمان حامية سوريا من المؤامرات عليها والعكس أيضًا. استتبع ذلك بقراءة سياسية نقديّة أجراها بشار الأسد لنوعية علاقة سوريا بلبنان، ورأى إمكانية حقيقيّة لتصحيحها. حاول ذلك مع المغفور له الوزير السابق فؤاد بطرس خلال الوضع المأزوم بين أركان قرنة شهوان وسوريا، فأجهضها الحرس القديم في سوريا الذي فيما بعد قام بالانقلاب على بشار عينه. وبدأت الأمور تسوء إلى أن بدأ عصر الاغتيالات في لبنان يفجره كان اغتيال رفيق الحريري قمتها وهو استتباع للدخول الأميركيّ للعراق وضغط على سوريا لتطبيق القرار 1559 الداعي لخروجها من لبنان، وكثير من الشرّاح والمفكرين السياسيين رأوا أن الحرب في سوريا وعليها كان اغتيال الحريري المقدمة الأولى والفعلية لحصولها.
 
أمّا بعد، لقد انكسرت شوكة الحرب على سوريا، وانتصر الرئيس بشار الأسد بفضل الجيش السوريّ والتحالف الإيرانيّ-االروسيّ، واستبسال حزب الله بالقتال إلى جانب سوريا، والرئيس السوريّ، لا ينسى حتمًا دور العماد ميشال عون بالدعم المعنويّ والرؤيويّ، وقد نقلنا في هذا الموقع جوّه لما زاره أصدقاء مشتركون بينهما حيث اعتبر بأن الرئيس عون ضمانة استراتيجيّة للبنان وسوريا معًا، وقد كان العماد عون الداعم الجوهريّ في حرب سوريا على الإرهاب في وقت لم يسعَ بعضهم من الحلفاء بالاتصال بسوريا، بمعنى أن العماد عون قبل الرئاسة وخلالها شريك في نصر سوريا على الإرهاب. وعلى الرغم من ذلك فالقضيّة ليست قائمة في تلك النوعية الراقية من هذه العلاقة، بل في أنّ التسوية السوريّة لم تكتمل عناصرها بعد، والمجتمع الدوليّ لا يزال يطالب باستبقاء النازحين في لبنان للضغط على التسوية في سوريا بل على التسوية الشاملة. وفي الحقيقة المثارة، إن استبقاء النازحين في لبنان هدف إسرائيليّ، إنه لغم وضع بوجه لبنان وسوريا معًا، وهو قابل للانفجار وبه يتمّ الانشطار. في مقال سابق لي في هذا الموقع أشرت "بأنّ ثمة صفقة تمّت ببيع قضيّة النازحين لإسرائيل ضمن مفهوم "العودة الطوعيّة". فإسرائيل وإلى جانب المجتمع الدوليّ، تعمل على استبقاء النازحين السوريين في لبنان ضمن مألفتين متلازمتين: العودة الطوعيّة، والاندماج أو بالأحرى الذوبان في المجتمع اللبنانيّ، بما يتيح استهلاكهم واستعمالهم كورقة ضغط على سوريا في اللحظات التسوويّة المرتبطة بها، وفي لحظة التشاد ما بين رؤية وارسو ورؤية سوتشي أو الأستانة. هذا عينًا قد يعرقل التسوية في سوريا أو يفرملها بفعل الجهود المبذولة من قبل مجموعة وارسو التطبيعيّة إرساء مجموعة شروط قد تحرج روسيا في محور الجولان، فيما هي وبحسب بعض الأوساط الدبلوماسية المراقبة تقف في خطّ وسطيّ ما بين الأستانة وسوتشي ووجودها في محور الممانعة كحليف استراتيجيّ للرئيس بشار الأسد، وهي في الوقت عينه تقيم علاقة طيبة مع إسرائيل، وهي اللاعبة الجوهريّة ما بين المشرق والخليج."
 
هذا عينًا يستدعي من اللبنانيين فهمًا دقيقًا وواعيًا بأن المجتمع الدوليّ يشاء ربط استبقاء النازحين السوريين لريثما تتم التسوية السوريّة، في حين أن موقف العماد ميشال عون يتناقض بالجوهر، إذ إنّ مفهوم العودة الآمنة انطلقت من أن ثمة مناطق في سوريا تحررت فلماذا لا يعود السوريون بكرامتهم إلى تلك المناطق، وكما أكّد الرئيس عون، فلتتمّ مساعدة السوريين في سوريا وليس في لبنان. ما قام به الوزير صالح الغريب هو الصواب، وموقف فخامة الرئيس المشرّف في مجلس الوزراء الأخير تصويب وتقويم لهذا الاعوجاج في الفهم. العلاقة اللبنانية-السوريّة باتت ضرورية من أجل البلدين معًا. لقد اعترفت سوريا باستقلال لبنان وسيادته، فهل نمزّق الاعتراف السوريّ بتمزيقنا لتلك الوثيقة ورفضنا للعلاقة اللبنانية-السوريّة؟ ماذا يفيدنا إن مزقنا ذلك الاعتراف؟
الميثاق اللبنانيّ قام على أنّ لبنان ليس مقرًّا ومستقرًّا للمؤامرات على سوريا، والسوريون مدركون بأن لا عودة أبدًا إلى زمن الوصاية على لبنان لكونه كان خطأ استراتيجيًّا ممّا أدّى إلى تلك الفجوات في الفهم المشترك. العلاقة اللبنانية-السوريّة ضرورة استراتيجية، نظرًا للمؤثرات الجغرافية والتاريخيّة ويعرف الرئيس سعد الحريري بأن التسوية التي سمته رئيسًا للحكومة لم يكن بشار الأسد بعيدًا عنها. فلنقر بتلك الحقيقة لمصلحة لبنان، إنها المقدمة الفعلية، لكي يكون لبنان جسر حوار ومصالحة بين العرب... هذا دوره الجوهريّ ومع الرئيس ميشال عون يتأكّد الدور برؤيته الحصيفة وأبعاده الرصينة الحرة المنسجمة مع هوية لبنان الذاتية والمشرقية والعربية.   
 
 
 
 
 


http://bit.ly/2XsPFje


google-playkhamsatmostaqltradent