توفيت الإعلامية والروائية اللبنانية مي منسى مساء أمس الأول عن عمر يناهز 80 عاما إثر تعرضها لطارئ صحي قبل حوالي أسبوع، بعد مسيرة طويلة في الصحافة المرئية والمكتوبة استمرت حوالي 6 عقود، كانت فيها رمز الكلمة والحب والشعر والأدب والإعلام.
وأتى الرحيل لمؤسسة الأدب عقب أسبوعين فقط من اختيار روايتها «قتلت أمي لأحيا» ضمن القائمة الطويلة للجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر» 2019، ليخسر لبنان والثقافة العربية قامة وقيمة إنسانية وأدبية أثرت بمسيرتها المكتبة العربية.
فوجه مي منسى المشرق سجلته ذاكرة اللبنانيين كأول وجه يطل بالألوان على شاشة تلفزيون لبنان.
واختارت حينها اللون البرتقالي لتدخل به تاريخ الشاشة الصغيرة، كما دخلت قلوب اللبنانيين برقتها وإنسانيتها ومقدراتها التي رسختها اسما بارزا في كل المجالات التي طرقتها من النقد الصحافي الى الرواية الى تقديم البرامج وغيرها.
كانت منسى اسما جامعا لكل لبنان، ففي ذروة الانقسام اللبناني خلال الحرب الأهلية ابتعدت مي عن كل ما من شأنه التفرقة والتمزق، فشكلت بكلمتها دعوة صادقة للوحدة اللبنانية التي رأت فيها خلاصا للوطن الممزق.
وغمرت صفحات التواصل الاجتماعي والمواقع الإخبارية اللبنانية موجة حزن لرحيل منسى.
وكتب وزير الخارجية اللبناني جبران باسيل في تغريدة على «تويتر»: «سنفتقدك مي منسى.. لبنان سيفتقد روحك الجميلة وابتسامتك وكلماتك التي دخلت القلوب والتي ستبقى إرثا للبنان واللبنانيين».كما كتب لها مارسيل خليفة على «فيسبوك»: «صحوت اليوم باكرا على إغفاءة عينيك/ لا سحابة في الجزيرة الكبيرة/ ولا ضباب على الشجر.
في الفتى من الزهر/ وفي المعمّر من أشجار «الكينا»/ صحوت/ الى فنجان قهوتي/ وتأملت صورتك/ أفي مثل هذا الأحد من سنين/ كنت طفلة على حافة الشباك تنظرين/ مي منسى.
أما إليسا فكتبت: «مي منسى، رمز الكلمة والحب والشعر والأدب والإعلام الرصين اللبق.. اللي متلها ما بيموتو، اللي متلها بيدخلو التاريخ.. الله يرحمها».
ومي منسى مولودة في بيروت في 20 يوليو 1939، وهي حاصلة على دبلوم دراسات عليا في الأدب الفرنسي، وبدأت مسيرتها الإعلامية مع بدايات تلفزيون لبنان الرسمي في نهاية خمسينيات القرن الماضي، إذ عملت مذيعة ومعدة لبرنامجي «نساء اليوم» و«حرف على طريق الزوال»، الذي كانت تسلط فيه الضوء على قرويين لبنانيين يحافظون على حرف تقليدية في طريقها إلى الزوال، بعدها انتقلت في نهاية الستينيات الى العمل ناقدة في شؤون الأدب والمسرح والموسيقى في الصفحة الثقافية في صحيفة «النهار» اللبنانية.
وتحدثت الإعلامية والروائية الراحلة في مقابلات صحافية سابقة عن عملها هذا قائلة: «أنا مجبولة بالكلمة والكلمة مجبولة في، كنت مثل الفيلسوف الإغريقي ديوجينوس أحمل الفانوس لأبحث عن الإنسان الصالح وأضيء عليه».
كذلك ترأست مي منسى تحرير مجلة «جمالك» الشهرية الصادرة في بيروت منذ سنة 1986، وإلى جانب عملها الإعلامي، كتبت روايات عدة، كان أولها «أوراق من دفاتر شجرة رمان» سنة 1998 الذي يروي مشاهدات وقصصا من حياتها العائلية خلال الحرب اللبنانية.
ومن رواياتها أيضا «المشهد الأخير» (2003) و«أنتعل الغبار وأمشي» (2006) و«الساعة الرملية» (2008) و«حين يشق الفجر قميصه» (2009) و«تماثيل مصدعة» (2013)، وآخر رواياتها حملت عنوان «قتلت أمي لأحيا» التي اختيرت أخيرا ضمن القائمة الطويلة للجائزة العالمية للرواية العربية لعام 2019 وتروي أحداث فتاة مصابة بالتوحد وللكاتبة الراحلة رواية بالفرنسية لم تنشر بعد بعنوان «ما أسمي» تتمحور حول مدينة حلب مؤخرا كما أنها كانت تعمل على كتابة رواية بعنوان «الغربة» ولكن كان للرحيل كلمته الأخيرة.
«قتلت أمي لأحيا».. رواية الوداع
بينما كان ينتظر المتابعون للجوائز الأدبية وما ستصل إليه الروائية اللبنانية مي منسى بعدما ترشحت في القائمة الطويلة في الجائزة العالمية للرواية العربية «البوكر»، جاء الموت ليغيبها.
وكانت المؤلفة الكبيرة الراحلة ضمن 16 كاتبا عربيا في القائمة الطويلة للجائزة العربية الأرفع، برواية «قتلت أمي لأحيا»، الصادرة عن دار الريس، في العام 2018.
وتتناول رواية «قتلت أمي لأحيا» قصة «رشا» القابعة في زاوية التوحد منذ ولادتها، بعدما فقدت فتاة أمها أثناء ولادتها، فتشعر طيلة حياتها بالذنب لتردد هذه الجملة: «قتلت أمي لأحيا»، ومن هذا الوقت حطت «رشا» في مؤسسة خاصة بالمتوحدين في بلجيكا، عساها بالعلم الحديث تخرج من عالمها المقفل، حتى تقابل المخرج المسرحي ضياء العجمي الذي كان يتردد على هذا المعهد، فيقرأ ما كتبته «رشا» ويحاول استخراجها من عالمها.
ويبدو أن هذه الفتاة التي تعاني من التوحد، تصمم على تخطي محنتها، من خلال اتباع علاج نفسي، فيطرأ التحسن على حياتها من دون ان يعني ذلك شفاءها التام لتصبح حالتها النفسية طبيعية كسائر الناس، فتدخل عالم التمثيل عبر خشبة المسرح، وتروي معاناتها الشخصية والعائلية، لاسيما حادثة مقتل والدها الذي كان متوجها ذات ليلة ليشاهدها على المسرح، فيتعرض لعملية قنص على احد خطوط التماس، اضافة الى محطات اخرى مختلفة.
ومن أجواء الرواية: «منذ الصباح شعرت بيد القدر تقتلعني من عزلتي المزمنة وتحثني على الانتصار على علتي.. فما خطر في بالي ليلا قمت ودونته على ورقة حتى لا تخذلني ذاكرتي أمام اللجنة.. متدثرة بفستان أمي الأسود بدوت كما في ذكريات والدي، على مثالها، ثريا الهاربة دوما من واقعها من أجل أن تكون كائنا آخر.. سمعتهم ينادونني.. كان لي اسم.. نويت في تلك اللحظة أن أفجر الغلالة المقيدة جناحي.. اسمعوني، أنا قتلت أمي لأجل أن أحيا.. الخيوط المسيجة حريتي هي عقابي.. سأعود إلى رحم أمي وأطلق سراحي منه.. فبولادتي الثانية ستكون لي الحياة التي استحقها».