recent
أخبار ساخنة

إدمون صعب شلح أرز خالد من لبنان

الصفحة الرئيسية


بقلم جورج عبيد - قبل رحيله بأسبوع رثى إدمون صعب الأديبة الراحلة مي منسى قائلاً: "مي منسى كانت ايقونة فكرية ، أكّدت كفاية المرأة بل تفوقها على الرجل في مهنة تغلبها الذكورية ، كما كانت صاحبة قلب كبير تجلّى في كتاباتها وشمولية ثقافتها. كان الاستاذ غسان تويني يلجأ اليها لبث الرقة والتسامح والحنان والمحبة في النصوص، فكانت المنقذ للكثير من الكتاب، و"مبيّضة وجه النهار" في الأوقات الصعبة. ميّ منسّى الأمّ المثاليّة والمرأة التي أحببنا، وشهدنا على دموعها العاطفيّة، عضّت على جروحها حتّى آخر أيّامها. مي منسّى وداعًا للصحافة النبيلة". 
 
تتناجى الأرواح بنبل أشخاصها وتجلياتهم في لحظات الرحيل ببهاء الكلمة، وتسمو إلى الكلمة الذي هو بداءة البدء، ومن بعده ليس من بدء وهو كمال الوجود. أخال إدمون في لحظة رثائه ميّ أدرك أنشداده إلى لحظة الرحيل، وهي بالتالي لحظة الحريّة الأزليّة المعدّة لكلّ إنسان. فالجسد النحيل والمنكسر بوطأة المرض آن له أن يرتاح من بعد أوجاع كثيرة حاربته وشدائد عديدة اكتنفته، لقد عصف المرض به مديدًا حتّى الاستبداد بالجسد ونحوله وضموره. وعلى الرغم من ذلك، لم ينكسر إدمون الكاتب والإنسان، ولم يكبُ الفارس عن جواده، بل ظلّ عشير القلم، نديم الموقف الحر، مدمنًا على انسكابه ضمن مقالات ولدت من قلبه وعقله عجنتها خبرات السنين الطويلة وصقلتها ثقافة واسعة، وأغنى بموقفه وثقافته الواسعة تلك المقابلات التي علا فيها صوته بالتحليل السليم والرأي القويم، المستند إلى معلومات دقيقة، انكبّ إدمون على تنقيبها وقراءتها بتؤدة وتمحيصها بحكمة وسكبها بجرأة، بلا محاباة لأحد، ولا مواربة على أحد، خالية من أبعاد عقيديّة جامدة، همّه ان يكون للبنانيين وطن كريم مبنيّ على ائتلافهم بالحقّ. فالحقّ وحده يبني الأنظمة والبلدان كما ردّد غير مرّة، والرئيس القويّ يستند إلى محبة شعبه فيصون بها عهده ويحمي وطنه، وقد رأى العماد ميشال عون أنموذجًا راقيًّا وصارخًا لذلك.
 
وعلى هذا أبى إدمون صعب في مسيرته الصحافيّة والإعلاميّة الارتجال في صياغة المبنى والابتذال في المضمون والمعنى. كره تسطيح الكتّاب للعناوين المطروحة بلا تحليل أو نقد مسنَد إلى مجموعة وقائع تشير إلى الحدث وتفحصه بدقّة وتشخّص مكامن الضعف والقوّة فيه كما يشخّص الطبيب المرض خلال فحصه المريض. لم يستهوه أعلامي أو صحافي يلتحف بالمصادر والأوساط ويتحجّر بها كأنه مجرّد ناقل عن ألسنة أخرى خشية أن تنال منه عواصف المتضرّرين، فيما هم مستكبرون على الناس، يسرقون لقمتهم ويتآمرون عليهم، ثمّ يظهر هذا الناقل تابعًا أو مستتبَعًا لهذا أو لذاك من داخل أو خارج بسبب ضغط معنويّ أو ماليّ على حساب الحقيقة أو على حساب القضيّة أو على حساب لبنان نفسه. ولهذا لفظ كلّ تفاهة وثار على العهر في أدبياته. لقد كان قاسيًا في التوصيف في كتابه "العهر الإعلاميّ"، لأنّ الإعلام أشرف مهنة كما كتب على غلافه مهدّدة بقواعدها وأخلاقياتها"، صدمه الهزال ورفض أن يتمّ التعاطي مع الإعلاميين وكأنهم سلعة في سوق السياسيين بلا كرامة ولا حضور، أو كأنهم شعراء بلاط، عملهم المدح والتقريظ، أو عازفون على طبلة السلطان كما قال نزار قباني في قصيدة له خاضعون له. قوّة إدمون خلال مسيرته الطوية في جريدة النهار تجلّت بحريّته وجرأته وصدقه مع نفسه ومع قرّائه. "صادقة هي الكلمة"، كما كتب بولس الرسول، فالكلمة الصادقة تنجّي. آلمه أن يرى الإعلام المرئيّ والمسموع والمقروء يسير نحو التدحرج، ويبيت في التعليب، ويكون جزءًا من أنظومة سياسيّة متهالكة ومنقسمة بنيويًّا، فيسخّر بهذا الانقسام وله، ويظهر لبنان من خلاله وبالأحداث المتراكمة على أرضه "بيتًا بمنازل كثيرة" كما كتب كمال الصليبي، أبناؤه وكتّابه رازحون فيما سمّاه غسان تويتي ضمن "ثقافة متراسية" قاتلة، أو ثقافة الجدران العالية الفاصلة بين حيّ وآخر، بين طائفة وأخرى، بين مذهب وآخر، بين إنسان وآخر. بهذا المعنى بدا إدمون ثائرًا بمرارة على هذا التماهي بين الإعلام والسياسة والرأسمالية المتوحشة، وثائرًا في الوقت عينه على دوس الكرامات وسقوط عالم القيم الضابط والناظم للشرائع والقوانين والحياة واللغة، ليظهر كل شيء متلاشيًا مضمحلاّ... وداعرًا عاهرًاً.
 
أهم مرحلة في حياة إدمون صعب المهنيّة بل الرساليّة والرسوليّة، كانت في جريدة النهار. لقد بهره غسان تويني وجعله مثله الأعلى في استنباط الرؤى واستكشاف الأمور في عالم الكتابة والبحث عن الحقيقة. حتى حين غادر جريدة النهار بمرارة فائقة بعد غياب الحبيبين غسان وجبران، لم يفارق غسان نصوصه ولا أحاديثه ولا ذكرياته وصولاً إلى كتابه الأخير وقد سمّاه  إلى جانب الشيخ إبراهيم اليازجي. كان غسان جزءًا منه وظلّ مقيمًا في قلبه وساكنًا في عقله إلى حين رثائه الأخير قبل اسبوع لميّ منسّى. لقد قال لي غير مرّة، غسان تويني علامة فارقة في حياتنا السياسيّة والإعلاميّة لن يطويها الزمان ولا النسيان، تلك خيانة فكريّة وإنسانية، إذا نسي اللبنانيون أن ثمّة من أضاء الشعلة ويفترض أن تبقى مضيئة، وإذا انطفأت ماتت الكلمة".  كنّا نرى معًا خلال لقاءات جمعتنا هنا وثمّة أن موت الكلمة يجيء من سقوط القيم والأهم من انهيار عالم الحريّة المسؤولة عن نفسها وأمام نفسها وأمام الله والتاريخ. وكم رأى هذا الحبيب جريدة "النهار"، مدى لهذا التجسيد الحيّ والبهيّ، وقد عمل غير مرّة إلى جانب الكبار فيها في اللحظات الذهبيّة التي لم تطوها الحرب ولم تفسدها التسويات لتبدو منبرًا حرًّا لجميع النخب الفكريّة والسياسيّة والعقائديّة والثقافيّة والاقتصاديّة. ثم نظر إلى الشباب والصبايا كخميرة ناضجة للبنان جديد وإعلام مستنير. فعكف على اللقاء بهم وتدريبهم بلغتهم المتوثبة التي لم تخبُ يومًا عنده وكان يجنّدهم ليذوقوا بهاء الكلمة ويتمتّعوا بسطوعها ويؤمنوا بصدقها ويعمدوا على غرسها ويرفضوا التنكّر لجوهرها كعمود حيّ في خلق عالم الحريّة المشبع بالمعلومات التي تعني الإنسان بجوهره وتعنى بقضاياه وتحرّضه ليبقى دائم الحركة. عنده أنّ الكلمة كلن تسقط الحكومات وتمزّق العروش الكرتونيّة، ومن رحمها يولد نظام الإنسان الجديد.
 
عرفته على المستوى الشخصيّ، حين أرسلني الأستاذ غسان تويني صديق والدي والعائلة، وكنت طالبًا في كليّة الآداب والعلوم الإنسانيّة الجامعة اللبنانيّة الفرع الثاني الفنار إلى مكتبه لأبدأ في الكتابة بنهار الشباب. قال لي غسان: سيعتني إدمون بك وتذكّر أنّك أمام عملاق يجدر بك أن تتعلّم منه الكثير الكثير إذا رمت العمل الصحافيّ الجاد. ذهبت إليه وكان اللقاء الأول. لم نتفّق إذ كان رأسي شامخًا وفوّت فرصة العمل إلى جانبه. بعد حقبة من الزمن التقينا في ندوة في كليّة الإعلام في الجامعة اللبانيّة، لأفاجأ به  يقول أمام الجميع وقد لمحني أرفع يديّ طلبًا لمداخلة، "هذا الشاب هو جورج عبيد، إنّه رمز لجيل آت لا يعرف الهدوء يشاغب أحيانًا ولكن بالحقّ، ويعرف كيف يفاوض بقوّة الإيمان وينال حقوقه كاملة، وبرأيي هذا الجيل سيكون الأكثر نضوجًا لأنه عاش ما بين الحروب والتسويات، رأى بعضًا من بيروت القديمة تنهار وهو يراها جديدة تبنى، وهو قادر على التمييز في كلّ شيء فاسمعوا ماذا سيقول"، وكان قد نشر لي مقالاً تحت عنوان الاستقلال الذي كان والذي يجب ان يكون سنة 1993 ورأى فيه مساحة جديدة للتفكير. فوجئت بأنّ هذا الرجل مليء بالمحبّة والتواضع، كان يرفض أن يراني ويرى سواي من فوق، أو يتكلّم معنا بلسان خشبيّ. كان يعترف بأن ثمّة جيلاً يحتاج للتشجيع من أجل العطاء والإبداع، ولا يفترض بل يرفض أن يتمّ إقصاؤه أو قمعه أو تركه مهملاً أو مهمّشًا أو مستهلكًا في برامج سياسيّة يدعى للتصفيق أو طرح الأسئلة على السياسيّ الضيف بلا نقاش، أو صمّ الآذان عن صراخه". وحين انتهت الندوة اتجهت نحوه وشكرته، فقال "يا جورج ما تشكرني أنا شايفك هللق وشايفك لبعيد، كفّي الطريق بتواضع وتعلّم دايمًا إنو لو كنت بتعرف الحقيقة إنما قول إنك ما بتعرف شي، لأن يللي بقول ما بيعرف هوي يللي بيعرف"، ومنذ ذلك الحين نشأت مودّة فصداقة فمحبّة فتضامن. كنت أنتظره على شاشات التلفزة متكلّمًا بجرأته المعهودة، وأحيانًا كثيرة كان يدعوني لأسشاهده وأسمعه بسبب شغفي بأحاديثه، وحين أنسى أو هو ينسى كان يتولّى أصدقائي الخلّص الاتصال بي ودعوتي لفتح التلفاز للتمتّع بعصفه الفكريّ وعاصفته الوطنيّة وإخلاصه لمبادئه ووفائه لرؤيته. ميزة إدمون أنه كان يبث الرؤى لا من أجل نفسه بل من أجل وطن اكتوى بآلآلام وظلم بالجور وتراكمت عليه المحن ضرب بالعاهات فبدا وطن أوجاع تفوق شدتها أحيانًا كثيرة على جمال طبيعته... وحين ينتهي من المقابلة كنت أتصل به لأهنئه ثم نتباسط في الكثير من التفاصيل، وأنا أسمع وأتعلّم.
 
آخر ثورة عاينتها عنده يوم ظلم الزملاء بحقوقهم في جريدة النهار. قال لي بالحرف الواحد، لقد عشت معهم رفقة عمر، هل يعقل أن يموت بعضهم بسبب القهر لأنّ حقوقهم أكلت؟ وتحدث بحسرة عن جورج ناصيف وسأل أيعقل أن يطحنه المرض والفالج ويصير نسيًا منسيًّا، ما هذا الزمن العاق؟ وكان يجاهر برأيه على صفحته الخاصة على الفايسبوك، ويقول غسان تويني كان جبّارًا بآلامه وجراحه، لكنّه مات ثلاث مرات في النهاية: المرّة الأولى يوم استشهد فجر النهار جبران، والمرة الثانية حين لحق بقافلة عائلته والمرّة الثالثة يوم تمّ التجنّي على رفقته وأحبائه في الجريدة وشّردوا في غياهب المجهول... كما ثارت ثائرته على زملاء له في جريدة الأنوار مستذكرًا أصدقاء كثرًا له كانوا أعمدة رخاميّة للصحافة الحرّة والرصينة.
 
إدمون صعب الصديق الحبيب، فم من نار وقلم من نور. صوت هادر في برية لبنان والمشرق. عقل ثاقب وأصيل في زمن التفلّت. إذهب إلى كمال الكلمة، واذكرنا أمام العرش الإلهيّ، صلِّ كي لا تموت الكلمة في زمن القحط والجفاف، لكي تبقى لنا بعض حريّة وكرامة، وكي تظل الحقيقة مدماك بقاء لبنان واستمراره.
 
صديقي إدمون، أذكر مرّة أنّ الشاعر الكبير سعيد عقل وأنت من نلت جائزته، قال في منزل أهلي في الحازميّة، حين أتينا على ذكر جريدة النهار وبعض كتابها: إدمون صعب إبن زحلة شلح أرز من لبنان وصخرة راسخة من جباله، وعاصفة من كلمة وفكر. لم يقل سعيد عقل أمامنا محبته لك فقط وهو مواطنك وصديقك وكنا معًا نلتقي في أربعائه في الحازمية التي دأب الصديق الحبيب جان عرابي على تكريمه بها، إنما قال الحقيقة الناصعة. أنت شلح أرز خالد صمدت أمام العواصف والرياح، وصخرة راسخة معلّقة على جبل شامخ لا تركع للموت بل لمجد الله. إنّ خلودك بالكلمة الباقية بالصورة والصوت والقلم، أقوى من الموت وأعتى من الغياب، كما أن النور فيك أبقى من التراب. فاذهب واعلُ إلى بيت الكلمة، هناك تبيت كلمات الوجود أو تولد أو تتجدد لتهبط علينا بواسطة الأنبياء والأصفياء. فالسلام عليك في لحظة الرقاد وبهاء القيامة.  


http://bit.ly/2TjZQUJ


google-playkhamsatmostaqltradent