"روح أفواهنا المسيح الرب" (إرمييا النبيّ)
أعظم ما في تاريخ الأديان والحضارات، السابقة والمعاصرة والحديثة، ما ظهر في المسيحيّة، أنّ الله محبّة، ولم ير على بهاء تلك الصفة إلاّ بتجسّد المسيح وموته وقيامته. ثورة الثورات في ملء التاريخ، أن الله خالق البشر والكون قد صار في الكون، قد ولد في التاريخ، بل صار وليد الإنسانية كلّها بإثمها وشقائها، بفضائلها ونقاوتها، فيها الزانية وفيها العذراء، فيها الطاهر وفيها الجزّار، لملم حطام البشر كما لملم في الخلق العظام كل واحدة إلى الأخرى، وجعل نفسه آتيًا منها، لتصير في التجسد وفي صيرورة التجسد نحو الصليب متكملة به ومولودة منه.
ليس من سرّ أعظم من هذا، وهو أن الله الذي لا يرى، والخالق المحجوب في مدى الأزليّة ومساحتها المضيئة، صار ممكنًا أن يرى بمسيحه وقد جعله أبوه مسيحنا أي وليد إنسانيتنا. جاء من جوهره، وهو ضياء مجده وشعاع أقنومه، ووجهه الكامل، ليصير بدوره وجهنا. أن يولد المسيح من مريم العذراء معنى هذا أن يقتبل أن تكون اإنسانية والدته ووليدته، فالولادة مزدوجة العناصر حيث الله يقبل إلى جبلته البشريّة ليجعلها قامة من نور، أي تصير نورًا من نور. هذا هو الانقلاب عينه، الجذريّ والحقيقيّ، على تاريخ ظهر الله فيه خالقًا ولكن الإنسانيّة لم تعرفه أبًا إلاّ بتجسّد ابنه الوحيد يسوع.
لماذا شاء أن يكون هنا؟ كلّ مسار التاريخ القديم، كشف أنّه لا بدّ أن يصير الله فيه. هذه "اللا بدّ"، محسومة في عقله ومحكومة بإرادته ومحتومة بتوجهاته. لقد شاء أن يولد من شقائنا وتعبنا، أن يولد في حروبنا وبؤسنا، ليس لأنّه شاء مصالحة الأرض بالسماء، بل شاء مصالحة الجنس البشريّ مع نفسه برباط السلام، أبه هو وليس بسواه. لقد أبطل سياج العداوة بميلاده "فالمسيح نفسه سلامنا" كما كتب بولس الرسول إلى أهل أفسس، وهو القائل عن نفسه: "أنا هو القيامة والحق والحياة". ثمّة ما كشفته المسيحيّة بالمسيح المتجسد، أنّه الحقّ والحياة، وفي معطى آخر، فالأيقونة تظهره من التجسّد إلى الصلب كليّ الجمال، ملؤه الخير والحقّ، وهذا عينًا ما يجعلنا نثق، بأنّ تلاقي الخير والحقّ والجمال به، يبطل الشرّ والباطل والبشاعة، فالبشاعة ارتبطت بالشر والباطل، ويجعلنا نبصر حياتنا بالخير والحق والجمال، ثلاثة أقانيم تشير إليه وتطل منه نحو دنيانا، فنقدر أن نكون به وبتلك الصفات المتنزلة منه والمشيرة إليه أحرارًا بالإيمان، ننقل الجبال، ونؤسس نظام حياتنا ونعلو به إلى وجهه الكريم المبثوث في كلّ فكر شريف ونضال صادق وشهادة حقّ.
وعلى هذا يسوغ طرح السؤال التالي: كيف لك أن تستقبل يسوع مولودًا من امرأة تحت الناموس في ميلاده العظيم، وتبقى ساكنًا في الليل، تستلذّ القباحات حيث انت مرميّ في وسطها، وتستطيب الشرور المبيحة للحروب؟ فالنور فيه طارد للعتمات الني أنت ساكنها، والجمال الكثيف لا يتساكن والقباحات، فكيف أيها المسيحيّ تتكنّى بهذا النازل من السماء حبًّا بك، وأنت لا تجيء حقًّا وفعلاً من ملئه، كما هو من ملء الآب خرج وبموته على الصليب والقيامة مضى إليه. المسيحيون بمذاهبهم يجيئون كلّهم من المسيح المتجسّد، فلا مسيحيون بلا مسيح، ولا مسيحيّة بلا مسيح ومسيحيين يتجسّد بالأجساد المتحرّكة والعقول المستنيرة. فلا معرفة ولا تماس بينه وبين من يقولون نحن منه بالشكل وهم يهملونه بالجوهر. كيف لا تحبّ حتى الاحتدام والعشق إلهًا احبّك قبل كون العالم واصطفاك حبيبًا له، وجعلك جزءًا منه، أي وحدك به، فأنت إذًا لا تعرفه إلاّ بالحب.
الخطيئة العظمى أن يقبل المسيحيون نحو الزيف الخارجيّ، ظنًّا منهم بأن الزينة والأضواء والهدايا إكرام لمجيئه. أجمل ما في المسيحيّة أن سيدها يرى نفسه في عمل الرحمة المستديم وليس الموسميّ. "إني أريد رحمة لا ذبيحة". القربان الحقيقيّ الذي تقدّمه للرب، محبتك وإسلامك الكامل لوصاياه، القربان الحقيقيّ أن لا تتحوّل المسيحيّة إلى عمل مؤسساتي يبغي الربح فتكون مؤسساتها حصرًا من نصيب الأغنياء أما الفقراء فيأكلون بقولاً، القربان الحقيقيّ، أن يتوحّد المسيحيون بحبّ يسوع لهم، فالقوي يصير ناصرًا للضعيف، والغنيّ ممدود نحو الفقراء. ألا يخجل بعضنا من نفسه حين يظهر عبر وسائل التواصل الاجتماعي موائده الفاخرة بأطايبها الممدودة وفي ليلة العيد ثمّة من لا يأكلون ولا يفرحون. لا يعني هذا الكلام أن لا نفرح بميلاد المخلّص، فهو فرحنا وسلامنا وحياتنا، كيف لا نفرح به حبيبًا يحضننا بعطفه وكرمه، وقد ذهب إلى أقص ما في الحبّ أي إلى الصليب. في الأساس لم يكن ميلاده منفصلاً عن صليبه، ففي اللحظة التي ولد فيها كان يعلّق على الخشبة حين قرّر هيرودس المجرم قتل أطفال بيت لحم وصبيتها. يسوع عشير الموت، هو الذبيحة الكاملة من الميلاد إلى الفصح. الفرح بالمسيح المخلّص لا يحدّ والتعبير عنه رائع، لكنّ التعبير يكون بأن نجعل من موائدنا وهدايانا وجهًا من وجوه حبّه لنا، وأن لا تكون الموائد في البيوت منفصلة عن المائدة السماوية في الكنيسة النازلة إلينا من السماء بالمسيح المتجسّد والحاضر فينا ومعنا في الكلمة والخبز والخمر. فرح بالعيد بأن نحتشد في كنائسنا لنعاينه على بهاء كبير.
"روح أفواهنا المسيح الرب". هذا رآه إرمياء قديمًا، وكشف منذ ذلك الحين الظهور الإلهي بتجسد الكلمة حيث الله فينا ومعنا. المسيح ولد وأتى ليس ليصير كلمة الله المتجسد في بطن التاريخ من بطن مريم، بل ليصير كلمتك أيضًا. مكسيموس المعترف هذا القديس العظيم الفكر قال: "كل نفس بشرية عذراء يولد منها المسيح". ليس المسيح كلمة الله المتجسد، بل هو كلمة الإنسانية المتألمة ليجعلها كلمته المتحررة في الأزلية. وإلاّ فما معنى مجيئه إن لم يكن هو كلمتها وتصير بدورها كلمته. أعظم ما في عيد الميلاد أنّه كتبنا باسمه ولم نعد مكتوبين لأنظمة في الأمم. وأعظم ما في العيد أنه جدّد أزليّة المملكة الأبديّة "إذ إن مملكتك الأبديّة تجدّدت أزليتها". أن يكون المسيح كلمة الإنسانية، فهذا يعني أنّ الإنسان لم يعد من التراب بل صار بسببه حضوره في المسيح ضياءه. ليس في هذا شِرك، بل حبّ وعشق. سر الحب والعشق أن تكون على بهاء تلك الصورة، أي أن ترى تفسك مسيحًا وامتدادًا للمسيح الكامل، بالنعمة والحقّ. هذا عينًا ما جعل المسيح متحرّكَا بكلّ جمال وحقّ وخير، بكل طهر وانفجار الحرية أمام الظلم، بمل مناضل بوجه الطغيان والطاغية. المسيحيّة بالمسيح مواجهة محتدمة مع كل استبداد في التاريخ، وإذا ما تحوّلت الكنيسة إلى نظام مستبد بدوره فالمسيحية تلفظها، ألم يدخل السيد الهيكل قبل موته حين رأى القوم قد حوّلوه إلى مكان للتجارة والصيرفة، ليجدل سوطًا ويطرد الباعة واللصوص منه؟ وعلى هذا طيف تقبل المسيحية أن تباع الكنائس في أوروبا، كيف نقبل الانشقاقات الكنسية تحت المظلاّت السياسيّة ضمن مصالح دوليّة قاتلة؟
وعلى الرغم من ذلك سيولد المسيح ونفرح به ونسير معه في كل لحظات حياتنا حتى يملأنا من مجده. وإذا ما متنا فنحن مع المسيح نموت. هو ينزل معنا إلى أسفل دركات الظلمة كما نزل بموته، لأننا ختمنا به بواسطة الروح القدس في المعموديّة. لن نكون وحيدين إذا أحببناه هو معنا، الله معنا، لن نكون متروكين لأنه ظافر وقويّ، وأقوى من الموت والظلم والظلاّم في التاريخ، لن يقبل بأن يتمزّق أباه في صراعات الأمم لأنه وليدها، منها أتى وإليها سياتي. للأب العظيم ميشال حايك قول رائع، يفترض بالعيد أن نعود إليه: "عند اليهود، المسيح لم يأت ولكنّه سياتي، عند المسيحيين أتى وسيأتي، وعند المسلمين هو فيهم بتعابير مختلفة وسيأتي"، من يراه اليوم في ميلاده آتيًا، سيراه أنّه سياتي، وإذا قلنا أنّه سيأتي فلأنه لا يزال يسير في التاريخ يعيش في ثناياه، فهو فوق وهو هنا، بعدما هدم سياج العداوة بجسده العظيم.
الميلاد ثورة الثورات، الله يرمي نفسه بصورة طفل أو عبد في مذود البهائم ينام على سرير من قش، عظمة هذا المشهد بهذا الترك في الدرك، النور يسطع في الظلمة ليكتمل في القبر بالنصر المبين، عظمة الميلاد بتجسّد الله، بأنه صار محبة لأجلنا. إنّه عيد الحب، وليس حبّ أعظم من حب المسيح لخليقته. الله أتى فافرحوا أيها الشعوب ويا أيتها الجبال والتلال عيدي والبسي ربيعك، ويا أيها الشجر والنبات اسجد لهذا الآتي إلينا بمجد أبيه، ويا أيها البحر إعرف أن مياهك من ينابيع عينيه، الله أتى ماران أتى، فتعالوا إليه، ويا أيها السعة الكبرى، أعطنا في ميلادك بحرارة وشوق أن نسجد لك ونراك ونحبك ونشهد لك إلى آخر لحظة من حياتنا، ، لتبقى وحدك روح أفواهنا وعقولنا وقلوبنا. فأجمل من الكلام عليك وأجمل منك هو أن نراكَ ونبقى نراك إلى اللانهاية، آمين. تعال أيها الرب يسوع لنراك، آمين.