عندما نُطلق لقب «قيصر السينما العالمية» على مبدع يحمل فكرا كذلك الذي عند أندريه تاركوفسكي فهو يستحقه، فمن يمعن جيدا بمسيرته المهنية وإنتاجاته السينمائية يعي تماما مدى الإضافة التي قدمها أندريه للسينما العالمية والبصمة التي تفرد بها دون غيره من السينمائيين منذ انطلاقة الفن السابع وحتى أيامنا هذه.
فليس غريبا أن ذلك الطفل - الذي كان ثمرة لزواج شاعر يدعى آرسيني بالممثلة إيفانوفنا واتجه لدراسة الرسم والموسيقى فيما بعد وعرج على دراسة اللغة العربية في شبابه وتعلق بها وبنتاجاتها الأدبية التي اطلع عليها- استطاع أن يضخ كل ما اكتسبه من معرفة وخبرات نتيجة البيئة التي عاشها في أفلامه السينمائية والتي جعل منها جزءا من تأملاته الروحية وأصر على عرض أعمق أزماته الشخصية واضعا إياها أمام الجمهور يبحث فيها ويشرحها كما يحلو له، متعمدا في كثير من الأحيان إجبار المتلقي على محاولة تأمل جوهر الوجود الإنساني وغاية الإنسان في هذه الحياة، وموقظا في الوقت ذاته ذلك الصوت الداخلي الدائم التردد والخوف، كل ذلك بعيدا عن الرمزية التي حاول البعض تأطيره بها وكان جوابه رافضا لذلك في أحد اللقاءات الصحافية، حيث قال: «بإمكاننا التعبير عن مشاعرنا فيما يتعلق بالعالم من حولنا إما بالطرق الشاعرية أو بالمعاني الوصفية، بالنسبة لي أفضل التعبير عن نفسي بشكل مجازي، دعني أؤكد بشكل مجازي وليس رمزيا».
في العدد هي سبع من التحف السينمائية الخالدة إن لم نبالغ في التعبير، وفي الكم هي مخزون فكري مكتمل يصعب تلخيصه لمن لم يمارس عادة مشاهدة أفلامه واكتشاف عناصر تاركوفسكي الخاصة به دون غيره كما يحدثنا كل من درس الإخراج السينمائي في معهد السينما بموسكو من أبناء الشرق، تبدأ بـ «طفولة إيفان» الذي كان ظهوره الإخراجي الأول مع شركة موسفيلم عام 1962 وقد نال هذا الفيلم جائزة «الأسد الذهبي» في مهرجان «فينيسيا» وحقق تقديرا وتميزا على مستوى العالم بسبب الجرأة في طرح المعاناة والآلام الإنسانية، وقد أثار نجاحه الكثير من الحرج في موسكو للحكومة والتي عملت على بتر نجاحه وتحجيمه.
وهذا ما ينطبق أيضا على فيلمه الثاني «أندريه روبليف» عام 1966 الذي كان عملا شاعريا يعرض فترات متباعدة من حياة رسام الأيقونات الروسي «أندريه روبليف» الذي عاش في القرن الخامس عشر، وقد قسم الفيلم لعدة فصول مجسدا فيه دراما مجازية وصراعا روحانيا عميقا يعكس من خلال التورية محنة الكثيرين من الفنانين الروس آنذاك، لكن وبالرغم من أنه قد أنجز عام 1966، إلا أن المشاكل مع الرقابة السوفيتية عطلت السماح بعرضه دوليا حتى عام 1973، وحاز جائزة «النقاد» في مهرجان «كان» عام 1969 بعد أن تم تهريبه لفرنسا عبر أحد المنتجين الفرنسيين.
وكان فيلم «سولاريس» الثالث عام 1972، وقد بني على رواية خيال علمي كتبها «ستانيسواف ليم»، وتدور معظم أحداثه في الفضاء، لكنه بالطبع فضاء تاركوفسكي الصبغة ويختلف كليا عن فضاء الأفلام المعاصرة من حيث الأفكار المطروحة والرؤية الفنية، وبعدها بثلاثة أعوام 1975 أخرج فيلم «المرآة» أول أفلامه الملونة والذي لقي شعبية طاغية بين المثقفين الروس، حيث يتناول الفيلم قصة متعددة الحكايا تتحرك ضمن إطارات زمنية بانسياب في سلاسة للخلف والأمام، عاكسة أيضا أحلام تاركوفسكي وتجربة أزمته الروحية كفنان أثناء حكم ستالين، في حبكة ذات تركيبة مبتكرة جذريا، وقد اعتبر الكثيرون أن موضوع الفيلم جاء مكملا لما طرحه المخرج من قبل في فيلمه الأول «طفولة إيفان».
أما آخر أفلامه في روسيا فكان فيلم «ستالكر» عام 1979، عن قصة مأخوذة من رواية «نزهة على جانب الطريق» للأخوين ستروجاتسكي ويتناول فيه موضوع الأزمة الروحية والصدع بين علوم الطبيعة والإيمان بالدين، ومستقبل الإنسانية من منظور التهديد الذري، مفاجئا المتابعين بطريقة التصوير وبشكل الصورة البصرية المائلة إلى اللون البني الداكن في معظم لقطات الفيلم، وقد عد ذلك جرأة كبيرة فاجأت العين بما لم تعهده من قبل وقتئذ.